دمشق ياحبيبتي

وفي المدينة التي تقف فيها على حافة الحنين, تدرك كم أنت غني عن كل البلدان والأقطار، في هذه المدينة التي يغفو الياسمين على كتفها, وترقد إلى جانبها أشجار النارنج والليمون, تدرك أنك تعيش العمر فقط لتحلق بين أشجارها وتموت فوق أحجارها وتتعشّق ترابها.

كل ركن من هذه المدينة يناديك أن انحنِ إجلالاً وتواضعاً وقف احتراماً، كل شرفة فيها تلوح لك بيديها العابقتين برائحة مطرها الذكية.

 أوَ يستغرب أحدنا أن تسقط كل قوافل الشهداء في سبيلها !، أوَ بعد كل هذا يبقى للمرء شك في قدسية هذه المدينة التي تغنّى بها الشعراء والكتاب!

شعراء وكتّاب ومؤرخون كان لهم حكايات طويلة عاشوها، ورووا تفاصيلها لنا، فعاشت دمشق في قلب كل واحد منا، في كلامه وشعره وتاريخه، وربما كان الشّاعر اللبناني سعيد عقل أكثر من تغنّى بهذه المدينة، فله فيها قصائد تطول وتكثر، يقول:

سائليني حين عطّرت السلام            كيف غار الورد واعتل الخزام

وأنا لو رحت أسترضي الشّذا           لانثنى لبنان عطراً يا شآم

ردّ لي من صبوتي يا بردى             ذكريات زرن في ليّا قوام

كما يقول أيضأً:

قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب       شآم ما المجد؟ أنت المجد لم يغب

شآم، لفظ الشآم اهتز في خلدي       كما اهتزاز غصون الأرز في الهدب

أنزلت حبّك في آهي فشدّدها          طربت آهاً فكنت المجد في طربي

ويقول أيضاً:

شام يا ذا السيف لم يغب                 يا كلام المجد في الكتب

قبلك التاريخ في ظلمة                   بعدك استولى على الشهب

أما الشّاعر العراقي مظفر النواب، فيصف دمشق في سطور تتفكّر في معانيها، فتلقى في كل جملة حكاية حب غزلها معها، حكاية عراقة غزلتها دمشق مع البشرية، فأبت إلا أن تكون امرأة المستحيلات السّبع، يقول النّواب: إنها دمشق امرأة بسبعة مستحيلات، وخمسة أسماء وعشرة ألقاب، مثوى ألف وليّ ومدرسة عشرين نبي، وفكرة خمسة عشر إلهاً خرافياً لحضارات شنقت نفسها على أبوابها، إنها دمشق الأقدم، ملتقى الحلم ونهايته، بداية الفتح وقوافله، شرود القصيدة ومصيدة الشعراء.‏‏‏‏‏

أمّا الشاعر محمد مهدي الجواهري فقد كتب في دمشق سطوراً تخالها حروفاً غزلية يرسلها لوجه حبيبته الذي يعشق، يقول:

شممت تربك لا زلفا ولا ملقا                وسرت قصدك لا خبّا ولا مذقا

وسرت قصدك لا كالمشتهي بلداً           لكن كمن يتشهّى وجه من عشقا

دمشق عشتك ريعاناً وخافقة                     ولمّة والعيون السود والأرقا

أمجاد دمشق أغانٍ خالدة، غناها الزمان، ورددتها حناجر كل من أحب هذه المدينة العريقة، فتاه الزمان بهذه الأغنية، وتهنا نحن في جمال دمشق، يقول أحمد رامي في قصيدته (دمشق):

على حواشيك أمجاد مخلّدةٌ                     لها من الذّكر تاريخٌ وديوان

غنّى الزّمان بها تيهاً وردّدها               من جانب النّيل أحباب وخلّان

ولم يكن الأمير والشاعر الدمشقي نزار قباني بأقل حباً لدمشق من غيره، وهو ابن دمشق، وابن حاراتها، فقد سكنت مدينة الياسمين كل كلمة في أشعاره، ورسمت قوافيه وأوزانه، وغرّدت كالحمائم فوق رأسه فكتب عنها محبوبةً وأمّاً وموطناً لا يضاهى، ودوّن فيها قصيدته (من مفكرة عاشق دمشقي):

فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا            فيا دمشق لماذا نبدأ العتبا

حبيبتي أنت فاستلقي كأغنية          على ذراعيّ ولا تستوضحي السببا

وأرجعيني إلى أسوار مدرست         وأرجعي الحبر والطبشور والكتبا

وقال في القصيدة الدمشقية:

أنا الدمشقي لو شرّحتم جسدي              لسال منه عناقيد وتفاّح

هنا جذوري هنا قلبي هنا لغتي      فكيف أوضح؟ هل في العشق إيضاح؟

ولم يقف عند ذلك، بل وصف الحارات الدمشقية، والمآذن والأشجار والدكاكين، وتغنّى بمنزله، بياسمينه ونارنجه، ونوافيره، فقال في قصيدته (ترصيع بالذهب على سيف دمشقي):

النّوافير في البيوت كلام                    والعناقيد سكر مطحون

يادمشق التي تفشّى شذاها                  تحت جلدي كأنه الزيزفون

شام يا شام يا أميرة حبّي                  كيف ينسى غرامَه المجنونُ

أما الشاعر أنور العطار فقد تغنّى بنهر بردى، فيرى فيه شاهداً على حوادث التاريخ، على الأمجاد والانتصارات، وعلى الأجيال التي توالت عليه، هذا النهر  الذي تنساب مياهه كالعطر تعبق به كل دمشق، فيقول في قصيدته النهر الشاعر… بردى:

بردى المشتهى يفكّر شعراً                وهو يحيا لحنا وينساب عطراً

خبر العالمين جيلاً فجيلاً                  ووعى الكائنات دهراً فدهراً

وممن تغنّى ببردى أيضا، كان الشاعر جورج صيدح، الذي يرى أن ماء بردى يبل القلب، ويروي ظمأ الروح، وعطش الذكريات، فيقول في قصيدة بردى:

حلمت أني قربك يا بردى            أبلّ قلبي كما بلّ الهشيم ندى

دمشق أعرفها بالقبّة ارتفعت         بالمرجة انبسطت، بالشاطئ ابتردا

بالطيب يعبق في الوادي وأطيبُه     في تربة الأرض غذّاها دم الشهدا.

وفي كل زاوية من زوايا دمشق سطور حفظها التاريخ، تحكي لنا عن ماضي هذه المدينة، وتخبرنا بالقادم من الأيام، هكذا يراها الشاعر عدنان مردم بك في قصيدته دمشق إذ يقول:

بلد كأحلام الشباب جنانه                 وأديمه التاريخ  للمتأمل

خلع الزمان عليه ثوب مهابة             فغدا يصول من الوقار بجحفل

في كل زاوية كتاب حضارة             ينبيك عن ماض وعن مستقبل

وتبقى دمشق لغزا محيراً، يتساءل الجميع عنه، فلا يجدون له جواباً، ولعل أكثر من حاول فك طلاسم هذا اللغز كان الشاعر محمود درويش، ولكنّه وجد فيها ما يبهر وما يعجز الفكر عن فهمه، فما كان منه إلا أن كنّى المستحيل بدمشق، فقال في قصيدته طريق دمشق:

يا ايّها المستحيل يسمونك الشام

أفتح جرحي لتبتدئ الشمس.

ما اسمي؟ دمشق

هذه مهنتي يادمشق

من الموت تبتدئين، وكيف تنامين في قاع صمتي ولا تسمعين.

وأعددت لي لغة من رخام وبرق

وأمشي إلى بردى، آه مستغرقاً فيه أو خائفاً منه

إن المسافة بين الشجاعة والخوف، حلم.

ومهما كان للشعر وللشعراء وقفات مع دمشق، فإن لقلوبنا معها وقفات أكبر، وأحلى، وقفات على شرفات الذكريات التي اختزنتها قلوبنا في كل شارع، أو حارة، أو بيت.

 

العدد 1105 - 01/5/2024