السوريون واستحقاقهم الانتخابي.. لبنان أنموذجاً

ينظر باهتمام إلى المشاركة الواسعة والمنقطعة النظير للسوريين في لبنان، في الاستحقاق الانتخابي الرئاسي (قُدّر بمئات الآلاف)، بوصفه مؤشراً حول كيفية تعاطيهم مع قرار وطنهم السيادي واستقلاليته، وبوصفه واجباً وطنياً وفردياً، يعبرون به في عملية ديمقراطية انتخابية، عن حرصهم على التعبير عن رأيهم، في انتخاب رأس الهرم في الدولة السورية، ويظهرون مدى تعلقهم بوطنهم، ورفضهم الإملاءات الغربية، ومحاولات الوكلاء والأدوات المحلية والإقليمية التشكيك في إمكانية نجاح أبسط تجليات الديمقراطية التي يتشدقون بها، والمتلخصة في حق التعبير عن الرأي.

ولأسباب عديدة، وفي الصدارة منها، تداعيات الأزمة التي تشهدها سورية منذ أكثر من ثلاث سنوات، وجد السوريون في الدول المجاورة، وبضمنها لبنان، سواء في مخيمات اللجوء القسري، أو مناطق وبلدات هذه البلدان، هرباً من عمليات العنف والقتل والتخريب التي تشنها العصابات الإجرامية- التفكيرية، وتجنباً لتبعاتها المباشرة على حياة السوريين، وخاصة في المناطق السورية المنكوبة.

وخلافاً لما تدّعيه حكومات وقوى العديد من هذه الدول، حول مواقف أبناء سورية الذين اضطرتهم ظروفهم القاهرة إلى مغادرة الوطن مؤقتاً، فإنهم أكدوا، بمشاركتهم المنقطعة النظير، في بلدان المهاجر والاغتراب القسري المؤقت، حرصهم على ممارسة حقهم الانتخابي من جهة، وتأكيد ولائهم للوطن من جهة ثانية. وأبطلوا بحجم مشاركتهم الواسعة التي لم تتوقعها الدول المضيفة وغيرها، حجج المشككين بطبيعة انتمائهم لوطنهم، وأظهروا تأييداً ديمقراطياً صرفاً عن مدى إخلاصهم لوطنهم، ورفضهم لمحاولات الآخرين إدراجهم في خانة المعارضين لتوجه سورية وسياساتها، بسبب مناطق إقامتهم المؤقتة، التي نأمل ونعمل على أن لا تطول.

وتزداد خصوصية هذه المشاركة الانتخابية، في لبنان أنموذجاً، لأنه تمثل رداً على مقولات البعض اللبناني، وغيره (عربياً) وإقليمياً ودولياً، حول موقف السوريين من استحقاق هام لبلدهم الأم، المصر على الالتزام بدستور البلاد، ورفض وضعه على طاولة التفاوض، رغم إعاقته ومنعه في العديد من الدول الغربية التي تتشدق بالديمقراطية، ويمثل كذلك رداً على حملات العديد من القوى اللبنانية التي دعت إلى مقاطعة هذا الاستحقاق، مستغلة ظروف اللجوء المؤقت، ومارست ضغوطاً على سكان مخيمات اللجوء، وبضمنها أن التصويت، بغض النظر عن طبيعته سلباً أو إيجاباً، يعني الحرمان من السلل الغذائية والمعونات الإنسانية.. وبذلك أكد السوريون المقيمون اضطراراً في لبنان، وفي العديد من دول المنافي المؤقتة ولاءهم لوطنهم، ورفضهم المتاجرة به، ولو على حساب لقمة العيش.

وهذا ما فعله السوريون في الكثير من الدول الإقليمية والأجنبية، التي حرمتهم من إبداء رأيهم الانتخابي، ومن تأكيد انتمائهم لسورية (فرنسا، ألمانيا، بلجيكا.. إلخ)، إذ قاموا بتظاهرات ونظموا احتجاجات شاركت فيها الجاليات السورية في هذه البلدان.

ورغم أننا ندرك آلام اللجوء المؤقت وتبعاته، ومخاطر التهجير من الوطن أولاً، هذا المخطط الذي تعمل عليه العصابات الإجرامية، إلى المنافي البعيدة ثانياً، فإننا نقدر جهود الدولة السورية الخاصة بتوفير حياة كريمة لمن فقد بيته وممتلكاته وقوت يومه في مناطق الإيواء الحكومية، أو في ضيافة أبناء جلدتهم، رداً على المخطط الكوني الأكبر، المتلخص في العمل على استمرار نزيف الدم السورية، وزيادة عدد المهجرين.. فإننا نأمل في الوقت نفسه من الدولة وأجهزتها ومؤسساتها بذل الجهود الاستثنائية لحل هذه المعضلة.

فكما أفشلت سورية المخطط الكوني في مواجهة أزمتها المستمرة منذ أكثر من ثلاث سنوات، ومحاولات إدامتها، وتخريب البنى التحتية للدولة ومؤسساتها، فإن الالتفاف الشعبي في بلدان المهاجر، حول الاستحقاق الانتخابي الرئاسي، يؤكد أيضاً فشل هذا المخطط في استمالة من قست عليهم الأزمة، وتأكيدهم انتماءهم لوطنهم أولاً وأخيراً.

وهذا ما يتطلب من عملية الاستحقاق الانتخابي، أن يربح هذا الاستحقاق المرشح الحريص على نهج سورية وتوجهها، ومواجهتها للمخططات فوق السورية، بالتأكيد المتجدد على الحل السياسي للأزمة السورية وتداعياتها، وتخليص البلاد من أتون اقتتال وعنف وتدمير طال بنيتها الاقتصادية والتاريخية والثقافية، ونسيجها الديمغرافي المتنوع أيضاً، وهي مهمة لن تكون أسهل بالتأكيد من مهمة الصمود في وجه المؤامرة التي حيكت ضد سورية، بل ستمثل امتداداً لها، وإن على سورية النجاح في مهمة ما بعد تجاوز الأزمة.

 

العدد 1105 - 01/5/2024