الطغيان والمغالاة في وسائط الإعلام

يكثرُ القيل والقال، وتكثرُ الحكايات والتأويلات بين الناس عند حدوث أي مشكلة أو أزمة في الدولة والمجتمع، وينقسمُ هؤلاء الناس بين مصدِّقٍ ومكذِّبٍ لأخبار وتحليلات وسائل الإعلام العامة والخاصة، المسموعة والمقروءة والمرئية، ويجري فرز هذه الوسائل الإعلامية بين وسائل لا تحكي الحقيقة للمحافظة على الروح المعنوية العالية للمجتمع، ووسائل لا تحكي الحقيقة أيضاً لإضعاف هذه الروح المعنوية، أو لتشويه الخبر لصالح جهة ما، وفي كل الحالات يكون الخبر بعيداً عن الحقيقة، فيبقى الحدث كما جاء في البداية بين القيل والقال دون معرفة الحقيقة، وتبلغ درجة عدم تصديق الإعلام لدي البعض حتى الشكّ في صحة الأخبار الجوية وحالة الطقس، ودائماً يتكلمون عن الإعلام بأنه موجه لترويج قضية ما، على حساب قضية أخرى.

حول هذا الموضوع سأقدم قراءة موجزة في كتاب عنوانه ( الصورة وطغيان الاتصال) للصحفي الفرنسي (إيناسو رامونيت) ترجمة نبيل الدبس، من منشورات وزارة الثقافة السورية، الهيئة العامة للكتاب عام 2009.

يشرحُ الكاتب بشكل عام في هذا الكتاب، الذي هو عبارة عن تجميع لعدة مقالات صحافية، كيفية تحوّل المعلومة عبر وسائط الاتصال المسموعة والمرئية والمقروءة، إلى سلعة تخضع لقوانين السوق في العرض والطلب والاحتكار، بين يدي حيتان الإعلام، كأي سلعة مادية.

حدثت ثورتان في تاريخ الإعلام بفترتين متباعدتين، كانت الثورة الأولى هي اختراع الطباعة من قبل (غوتنبورغ) عام 1440، والثورة الثانية حدثت في السنوات القريبة الماضية، مع تطور الأجهزة الرقمية في الاتصال والوسائط الإعلامية المتعددة (الملتيميديا)، التي تولدت عن التكامل الوظيفي بين أجهزة الهاتف والتلفاز والحاسب الإلكتروني، فنشأت آلة إعلام واتصالات جديدة تفاعلية وآنية، وتكونت منها شبكة الإنترنيت التي رأت النور في الولايات المتحدة عام 1969 وكانت حكراً على وزارة الدفاع الأميركية، ثم جرى تعميمها بتطور سريع لتشمل كل أنحاء العالم.

بعد الانتشار الكبير لوسائط الاتصال الإلكترونية والورقية ( الصحف والمجلات واسعة الانتشار) تحولت هذه الوسائط إلى قائد فكري يقود المتلقي إلى حيث يريد هذا القائد، ويوجهه إلى أي اتجاه يرغب، وحذر بعض المفكرين ومنهم ( جورج أوريل، والدوس يوكسلي) من أن تعمل هذه ( الماكينة) الآلة على خلق تطور وهمي كاذب لقولبة الذهن البشري في قوالب مخادعة للحقيقة المرجوة بعيداً عن واقع الحال.

تلك التحذيرات جاءت بعد أن صارت وسائل الإعلام المتعددة تصنع الخبرَ صناعة كسلعة إعلامية تسعى إليها شركات الإعلام للربح المادي، أو لإثارة موضوع معين للمتلقي وطمس موضوع آخر ومنعه من الظهور، عن طريق المغالاة الإعلامية عن الموضوع الأول، وكل ذلك على حساب المسائل الجوهرية التي تهم الإنسان والإنسانية.

من الأمثلة على المغالاة الإعلامية قضية موت الأميرة ديانا، وقضية الرئيس كلينتون مع عشيقته لوينيسكي، وكلنا نذكر الطوفان الإعلامي الجارف الذي اهتم بهاتين القضيتين، فقد باعت الصحف العالمية مئات الملايين من النسخ، على حساب طمس الكثير من المواضيع الإنسانية الأهم.

في الصحافة وفي كلّ وسائل الإعلام تشتهر مهنة صيادي الصور وصيادي المواضيع الفاضحة ( الباباراتزي)، الذين يمتهنون التلصص على النجوم والمشاهير، ويحولون الخاص إلى عام، وهؤلاء الصيادون هم نتيجة طبيعية لخضوع الإعلام لسوق الربح والتجارة.

ومن الإعلام الرائج في سوق الربح أيضاً ما يسمى إعلام القمامة، وصحف القمامة، التي تهتم بالصور وأخبار الخلاعة للأسر الحاكمة في بعض البلدان، ولبعض المشاهير في العالم.

ويمكن للإعلام أن يرفع شخصاً مغموراً إلى مصاف النجوم، وخاصة في مجال الرياضة والفنون على اختلاف أنواعها، وبالمقابل يهمل هذا الإعلام الكثير من القضايا العامة التي تحدث في العالم، والتي لها علاقة بالمجتمعات الفقيرة، كقضايا الجوع والكوارث الإنسانية، لأنها ليست ذات منفعة مادية ومالية لطغاة الإعلام وحيتانه.

في ظل الأنظمة الديكتاتورية يوضح الكاتب أهمية أجهزة الإعلام للتفخيم بالديكتاتور، وخاصة في مواسم الانتخابات، ويؤكد أن من يملك الإعلام يفوز بصناديق الاقتراع.

وبحديث آخر وليس خافٍ على أحد، يتحدث الكاتب عن هيمنة السياسة في الدول الكبرى على توجيه الإعلام نحو غاياتها السياسية والاقتصادية، فتؤلب الرأي العام ضد موضوع معين، وتجر خلفها كل وسائل الإعلام في العالم للحديث في الموضوع نفسه، ليكون التبرير سهلاً وغير مفاجئ بل ويكسبون تأييد الرأي العام العالمي، عندما يتحركون عسكرياً لقيادة تحالف دولي لتحقيق غاياتهم، التي تكون غالباً غير ما يعلنون عنها في الإعلام.

ومن هذا المنطق ستكون التعاريف السلبية للإعلام:

هو وسيلة قتل سمعية وبصرية، وهو وسيلة تهييج الرأي العام، وإثارة الانفعالية المفرطة، وقلب مفهوم الخبر، وإلقاء التهم والأخطاء في غير مكانها، وكما يقول الإعلامي بيير بورديو: ( إن أكثر ما يُخيف في الإعلام هو لا وعي الإعلام).

وبكلمة أخيرة يشير الكاتب إلى افتقاد الإعلام لكل مرجعيات المهنة وأخلاقها، وانتهاك الكثير من القضايا، وقلب حقيقتها إلى مفهوم آخر، وصار العالم بحاجة إلى رسول إعلامي يقود ثورة تعيد تحريك الإعلام نحو شكل أخلاقي صحيح.

العدد 1105 - 01/5/2024