النهر العميق.. قليل الضجيج

مهما اشتد غبار الزوابع فلن يستطيع أن يطفئ بريق النجوم، ومهما علا صوت الخنافس ونقيق الضفادع فلن ترى أبعد من المستنقعات التي ولدت فيها.

وكبر حجم الزرافة لا يدل على كبر عقلها، وصغر حجم الفراشة لا يقلل من رقتها وبهاء ألوانها، وبعض الأصابع الناعمة قد تذبح بأظافرها السامة، والشفاه الغليظة قد تخفي قلوباً رقيقة، ومهما اشتد نور الشمس فلن يزيد من بصيرة الأعمى، كما أن كثرة القضبان الحديدية حول العصافير الحرة لن يمنعها من الغناء والتغريد.

وكل نهر عظيم لا تكمن عظمته إلا بتواضعه، وعدم اكتراثه بخرير السواقي، ونعيب الغربان من حوله. (وكلما كان النهر عميقاً، قلّ ضجيجه).

ومهما زينا العصا العوجاء ودهناها بالعطر ووضعنا على رأسها تاجاً، فإنها لن تعطي أبداً ظلالاً مستقيمة، فالأفاعي والثعابين ناعمة الملمس، وفي فمها تكمن سموم قاتلة.

ولا تنزعج الخفافيش إلا من الضوء، ولا تنمو في الظل إلا الأعشاب الضارة والطحالب المتطفلة، ولا يغرم بالعتمة والظلام إلا اللصوص وقطاعو الطرق والمنافقون. وما أكثر المنافقين والمحتالين في عالمنا! خصوصاً في عالم الفكر ودنيا الأدب، إنهم أكثر من الكلمات التي تطبع في صحفنا ومجلاتنا العربية كل يوم.

ومَن ينقدك اليوم نقداً لاذعاً، ويطلق على نصوصك ألقاباً وأسماء من قبيل: نصوص سطحية أو بسيطة، وذات ألفاظ عادية.. فإنه يتناسى دلالة الكلمة البسيطة، ويتجاهل عمق المعنى الذي تقرؤه عيناه على السطح، ثم سوف تفاجأ بهم ذات يوم، إذا حدث أن أصبحت نجماً في عالم الأدب والفكر.. كيف أنهم سيتسابقون للكتابة عن نصوصك بغية الارتزاق والنفاق والتملق، كما نرى بعضهم اليوم يطبلون ويرقصون ويزمرون لبعض الكتاب مقابل حفنة من الليرات، أو دعوة لملء بطونهم التي لا تشبع، ولن تشبع.

وليس كل عضة كلب مميتة، ولا كل لسعة عقرب قاتلة، ولا كل قلم مستقيم قد يكتب بالضرورة كلاماً سليماً، مستقيماً.

ولعل في الحكاية التالية ما يفيد:

(بينما كان الفلاح عائداً مع حصانه إلى المنزل، جفل الحصان فجأة وركض، لكنه ما لبث أن سقط في بئر مظلمة.

فكر صاحبه بإنقاذه، لكنه لم يجد مخرجاً له من تلك البئر، وقرر أن يترك حصانه بعد أن اهتدى إلى ما هو أبعد، فالبئر جافة، وقد تؤذي غيره من الفلاحين.

نادى الفلاح جيرانه وطلب منهم ردم البئر، وأخبرهم بمراده من ردمه والفائدة المرجوة من ذلك فوافقوه.

وبدأ التراب ينهال على ظهر الحصان العالق في البئر.. أدرك الحصان أنه هالك لا محالة، ولم ينقذه ارتفاع صهيله من جوف البئر. وبينما القوم مستمرون في إلقاء الأتربة في البئر بلا توقف وإذا بصوت الحصان ينقطع، فلا صهيل ولا عويل، اقتربوا ليلقوا نظرة على الحصان الذي اختفى صهيله، وحينئذ رأى القوم مشهداً عجيباً.

ففي الوقت الذي كان فيه المزارع ورفاقه منهمكين بإلقاء التراب والحصى على الحصان، كان الحصان الشجاع مشغولاً بهز ظهره كلما سقطت عليه الأتربة، فيلقيها أرضاً ويدوس عليها ويرتفع.

وبدلاً من أن تغرقه القاذورات وتدفنه الأتربة، اتخذها مبرراً ليرتفع فوقها وينهض من خلالها، إلى أن صار حراً طليقاً، والفضل يعود إلى ما كان يظنه شراً خالصاً.).

إن المبدع الحقيقي لا يضره النقد إذا كان نقداً سليماً لا يجرح، فهو لن يتوقف عن الإبداع لمجرد سماعه نعيب غراب، أو نباح كلب، أو نعيق بوم، أو نقيق ضفادع طعامها البعوض، ومسكنها السواقي والمستنقعات.

العدد 1105 - 01/5/2024