مرسوم العفو وتعزيز المصالحات الوطنية

لا يمكن لأي منصف قرأ المرسوم التشريعي رقم 22 لعام 2014 الذي أصدره السيد رئيس الجمهورية بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلا أن يدرك أن هذا المرسوم غير ما سبقه من قوانين العفو العام، فلأول مرة يلامس قانون عفو القضايا السياسية مباشرة، وبالتالي فهو أميل إلى العفو السياسي من العفو الجنائي، ولا أبالغ إذا قلت إن الأسباب الموجبة لهذا القانون هي تعزيز المصالحات الوطنية في سورية.

 هذا المرسوم يدل على روح المصالحة والمسامحة، وهو تتويج حقيقي للمصالحات التي جرت على مساحات الوطن. وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على حالتين أساسيتين:

 الأولى هي الثقة بسورية وبالروح الوطنية السورية، والثقة المطلقة بصمود الشعب السوري، والثانية أن هذا العفو المذكور غير محكوم بالأنانية، أو الثأرية، أو الطائفية، أو غيرها من المفردات الغريبة التي صدّرها إلى مجتمعنا دهاة الإمبريالية والصهيونية، وعربان التخلف والتبعية. بأدواتهم التكفيرية الإرهابية، التي تلتقي مع الصهيونية بتشويه الدين الإسلامي الحنيف.

 وبما أن نص المرسوم نشر في جريدة (النور)، العدد الماضي، فسنلقي هنا الأضواء على بعض العناوين التي نراها ضرورية وهامة، فالمواد الثلاث الأولى من القانون شملت بالعفو عقوبة الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة والعقوبات المؤقتة أو المؤبدة، وهي واضحة لا لبس فيها ولا غموض.

 وتناولت أيضاً من أصيب بمرض عضال غير قابل للشفاء، ومن بلغ السبعين من العمر بتاريخ صدور المرسوم التشريعي، وهي حالات تأخذ بها معظم قوانين الدول المتحضرة ومدتها الطويلة تجعل من الجريمة شبه منسية وتميل إلى روح الرأفة والمسامحة التي يتمتع بها مجتمعنا إلى روح الصفح والغفران، ومن تجاوز السبعين من العمر من شبه المستحيل أن يعيد جريمته مرة أخرى لأسباب كثيرة منها الشيخوخة.

 أما العقوبات التي شملها العفو والواردة في متن قانون العقوبات الصادر بالمرسوم التشريعي رقم /148/ لعام 1949 وتعديلاته، فهي وإن كانت قديمة فهي ملامسة لما يجري في سورية الآن ومن ذلك شموله لقانون الإرهاب، فهي تتعلق باضعاف الشعور القومي، أو بإيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية، أو توهين نفسية الأمة، أو إثارة العصيان المدني بما يخالف الدستور، أو بما يتعلق بالمؤامرة على الوطن، أو إثارة الحرب الأهلية، أو الاقتتال الطائفي والحض على التقتيل والنهب، أو ترؤس أو تولي وظيفة أو قيادة في عصابات مسلحة بقصد اجتياح مدينة أو محلة أو بعض أملاك الدولة أو أملاك من الأهلين… إلخ من الجرائم.

 وهي منصوص عليها في معظم قوانين دول العالم وخصوصاً الفرنسية الذي استقى قانوننا معظم مواده منها إن لم نقل نقلها حرفياً.

كما تناول العفو بعض قضايا الإرهاب الواردة في المرسوم التشريعي رقم 148 لعام 1949 وتعديلاته إذا كان الجرم مقترفاً من سوري، وهذه المواد لا نبالغ إذا قلنا إنها متشددة أكثر من قانون الإرهاب، وهذا ما ورد في جريدة النور في مطلع عام 2011 في مقالة تحت عنوان (هل نحن بحاجة إلى قانون مكافحة الإرهاب؟).

وشمل العفو كذلك عن جرائم تصنيع الأسلحة وحيازتها وتهريبها.

وشمل المرسوم الكثير من مواد القانون رقم 19 لعام 2012.

والمرسوم رقم 20 لعام 2013 والقانون رقم 1 لعام 2011.

والمرسوم رقم 21 لعام 2012 والمرسوم التشريعي رقم 51 لعام 2001.

 والقانون رقم /2/ لعام ،1993 وقانون العقوبات الاقتصادي الصادر بالمرسوم 37 لعام ..1966. إلخ.

وهذه القوانين والمراسيم المذكورة وغير المذكورة وهي واردة في مرسوم العفو، شملت معظم الجرائم المتعلقة بالخطف والتهريب بأنواعه وخاصة الأسلحة، والمخدرات، والقضايا الاقتصادية، وقضايا الجمارك ومكتب القطع والمؤسسة العامة للتبغ والتنباك، وقضايا تدابير الإصلاح والرعاية للأحداث في الجنح وقضايا البناء والمخالفة للترخيص، وجرائم الفرار الداخلي والخارجي، وقضايا أخرى تتعلق بالجيش… إلخ.

 وشمل العفو من الإسقاط الكامل للعقوبة إلى النصف إلى الثلث ، إلى الربع… وهناك بعض الاستثناء من العفو لبعض المواد في بعض القوانين والمراسيم، جلها تتعلق بقضايا التجسس والتعامل مع العدو أو الخيانة، أو الإساءة للجيش…

هذا استعراض سريع ومكثف تناول بعض العناوين والإشارات، أما الدراسة الحقيقية فهي تحتاج إلى دراسة نص كل مادة من مرسوم العفو، والعودة إلى المادة التي يشملها أو التي يستثنيها، مع الأسباب والاقتراحات، وذلك يحتاج إلى عشرات الصفحات وهذا غير ممكن في صحيفة أو في مثل هذه العجالة.  ولا يمكننا أن نغفل أن هذا المرسوم كان حرفياً متقناً من حيث الشكل القانوني، وواضحاً لا لبس فيه ولا غموض، وهو انعكاس لأخلاقية الشعب السوري وإنسانيته وعدالته، فجاء أخلاقياً متناغماً مع أخلاق الشعب وأمنه الاخلاقي وخلوه من العفو عن قضايا الدعارة، وما يمس الشرف والنزاهة في المجتمع.

 وجاء عادلاً لأنه ضمن الحقوق الشخصية ولم يتجاوز عليها. وضمن النزاهة والاستقرار وضبط العمل في المؤسسات الحكومية. وحل الكثير من القضايا العالقة والمتشابكة . وعلى سبيل المثال لا الحصر هناك عشرات الألوف إن لم نقل أكثر من قضايا الفرار من الجيش الداخلي والخارجي. والكثير منها لم يكن بنيّة جرمية، فمثلاً المجند الذي هُدّد بقتل عائلته إن لم يفر من الجيش، أو من خطفت زوجته أو أبناؤه مقابل الفرار، أو ارتكاب عمل ما، لم تكن لديه النية الجرمية ويمكن أن يوجد أشخاص يضعفون، في حالة من الحالات.

 وكل منا يعرف أو يسمع عن الكثير من هذه القضايا. وهناك أسباب أخرى، مثل قطع الطرقات وغيرها، فالمكلف في مدينة الرقة التي تسيطر عليها (داعش)، كيف يمكنه الالتحاق بالخدمة؟ ومن أجل تطبيق شفاف ومنتج لهذا المرسوم فمن المعروف أن الموقوفين، ثلاث فئات، فئة حوكمت وصدرت أحكام بحقها، وهذه من السهل تطبيق المرسوم عليها، وفئة مازالت تحاكم أمام المحكمة وهذا يتطلب الإسراع بحسم دعاواها، أما الفئة الثالثة وهي الأعقد فهي تتضمن الموقوفين في المعتقلات والسجون والدوائر الأمنية المختلفة، وتسوية أوضاع هؤلاء تحتاج إلى الشفافية والجرأة وتطبيق المبدأ الدستوري والقانوني (كل متهم بريء حتى تثبت إدانته). وبما أننا أمام قانون عفو فمن المفيد الميل للصفح والتسامح، مع أخذ التعهدات اللازمة.

إن مرسوم العفو دون تحيز أو محاباة انعكاس لأخلاقية الشعب السوري وسموه، وطريق معبد لنيّة المصالحات الوطنية الشاملة، والحوار بين السوريين، لإعادة اللحمة الوطنية وتجاوز الأزمة، وعودة الأمن والأمان، ونطمح إلى إطلاق سراح جميع معتقلي الرأي السياسي الذين لم تتلطخ أيديهم بدماء شعبهم.

 دمشق 16/6/2014

العدد 1105 - 01/5/2024