العثمانيون الجدد والمعضلة السورية

 بوصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا بدأ منظرو الحزب يضعون الخطط والتصورات التي ستوجّه دفة السفينة التركية في خضم مفاوضات شاقة وطويلة في سبيل الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وللعمل على تحقيق حلم لا يزال يداعب الخيال التركي بإعادة بناء المجد الإمبراطوري للعثمانيين. ومن أجل ذلك تمخّض الفكر السياسي لحزب العدالة والتنمية فأنتج نظريتين تحددان التصور الاستراتيجي للسياسة التركية الخارجية.

نظرية «القوس المشدود والسهم المندفع»

حدّد وزير خارجية تركيا السيد أحمد داود أوغلو في كتابه »العمق الاستراتيجي … موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية« معالم نظريته التي ترسم الاستراتيجية السياسية للجمهورية التركية على الشكل التالي: كلما اشتد القوس إلى الوراء، اندفع السهم في الاتجاه المعاكس الذي يرتد إليه وتر القوس. إن هذه الاستراتيجية تهدف إلى تحقيق هدفين: الأول يمثل الدور الريادي الذي بدأت تركيا تلعبه على امتداد العالم الإسلامي والنموذج الذي يقدم الوجه الحضاري للإسلام المعتدل في مقابل نماذج أخرى للإسلام في المنطقة في مقابل التشدد الوهابي والطالباني. أما الثاني فهو السهم الذي سيندفع بقوة نحو الغرب ومن موقع القوة. فالغرب الذي لم يقبل بانضمام دولة علمانية بهوية إسلامية كما تعرِّف تركيا نفسها، سيقبلها مرغماً بعد أن تكون قد رسّخت أقدامها في الشرق كقوة إقليمية.

مبدأ صفر مشكلات

في 20 أيار 2010 كتب السيد أحمد داود أوغلو مقالته الأشهر »سياسة صفر مشكلات« محدداً السياسة الخارجية لبلاده على النحو التالي: يجب أن تتمتع أنقرة بعلاقات جيدة مع جميع الدول المحيطة بها، ولا سيما في دوائرها الإقليمية الأربع الأساسية، الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز وجنوب أوربا. وبظهور تركيا بمظهر الحريص على القضايا العربية ووقوفها بوجه الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة ودفاعها عن القضية الفلسطينية، وخصوصاً انسحاب رئيس وزراء تركيا السيد رجب طيب أردوغان من مؤتمر دافوس غاضباً بعد مشادة حادة مع الرئيس الإسرائيلي بيريز ، قد أكسب تركيا شعبية هائلة في الشارع العربي والإسلامي. وفي الوقت نفسه حافظ الأتراك على التعاون العسكري والاقتصادي والأمني مع الجانب الإسرائيلي، فكانت أنقرة العاصمة الوحيدة التي تمتعت بعلاقات مميزة مع جميع الأطراف المتناقضة في المنطقة.

أهمية سورية في الإستراتيجية التركية

 سورية هي المعبر لتركيا  إلى الشرق الأوسط، فبفضل العلاقات المميزة بين أنقرة ودمشق التي تطورت بسرعة في السنوات الأخيرة، فُتِحت الأبواب المغلقة أمام تركيا، وأصبحت صديقة مقرّبة لحركات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وعززت موقعها في الشرق الأوسط، وخصوصاً بعد أن بدأت تلعب دور الوسيط في المفاوضات غير المباشرة بين سورية وإسرائيل، إضافة إلى الدور الذي لعبته في المفاوضات حول ملف إيران النووي.

وكحزب ذي مرجعية إسلامية أراد حزب الحرية والعدالة الحاكم في تركيا أن يصل الإخوان المسلمون إلى الحكم في سورية، أو على الأقل أن يشاركوا في البنية الأساسية للنظام السوري. لأن حكومة العدالة والتنمية ترى أن هذه العملية ستساعد على ترسيخ النفوذ التركي وسلطته في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. والهدف الثاني من هذه العملية هو تغيير الوضع الاستراتيجي السوري من حليف لإيران إلى حليف لتركيا. وبهذه النقلة النوعية للتموضع السياسي السوري تكون تركيا قد سجلت نقطة مهمة في صراعها مع إيران على منطقة الشرق الأوسط. ولكن هذه العملية قد تسبب برد فعل سلبي من أولئك الذين يعدّون أنفسهم القادة التقليديّن في المنطقة، كمصر والمملكة العربية السعودية.

لذلك عندما بدأت حركة الاحتجاجات في سورية حاولت حكومة حزب العدالة والتنمية إظهار نفسها بمظهر الناصح الواعظ لسورية عبر تقديم النصائح، واقتراح الحلول كي تتجاوز سورية الأزمة بسرعة وبأقل الخسائر الممكنة. ورويداً رويداً بدأت أنقرة تفقد العامل الإيجابي الذي يفترض أن يكون دور الوسيط، وأخذت تنحو شيئاً فشيئاً لتكون مع طرف ضد طرف آخر خلال تطور الاحتجاجات من تظاهرات حاولت أن تكون سلمية إلى صراع مسلّح يستهدف إسقاط الدولة السورية. وحتى عندما قررت الانحياز لطرف ضد آخر في الأزمة السورية أخطأت قراءة الواقع السياسي السوري، فلم تر فيه إلا أكثرية وأقلية من الناحية المذهبية والدينية. ومن هنا توقعت أن لا تطول الأزمة وأن النظام في دمشق آيل إلى السقوط خلال مدة قصيرة من الزمن. فاحتضنت حركة الإخوان المسلمين التي عدّتها القوة الرئيسية في المعارضة السورية، وعملت على تشكيل المجلس الوطني السوري الذي فقد مصداقيته حتى بالنسبة للمعارضة السورية بسبب هيمنة الإخوان المسلمين عليه.

الخطأ في قراءة الواقع السياسي السوري وفشله في توقع مسار الحراك الشعبي المطالب بالإصلاحات، والذي تحول إلى تمرد مسلح على الدولة، وتورط حكومة حزب الحرية والعدالة فيه، جعل الخطاب الرسمي التركي يعود إلى فترة الدولة العثمانية موزعاً صكوك الغفران على أفراد ومقرراً صحة إيمان أشخاص. وعبر استخدام  خطاب ناري يداعب العاطفة الدينية والغرائز المذهبية، خسرت تركيا سورية الرسمية ولم تكسب سورية الشعبية التي بدأت قطاعات واسعة تتوجس من النوايا المبيتة للحكومة التركية الحالية تجاهها. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فمقاربة الحكومة التركية الخاطئة للحدث السوري وتّرت علاقات تركيا مع محيطها الإقليمي، وخصوصاً في القضية الأرمنية والمشكلة القبرصية والملف الكردي، ذلك الجرح النازف في الجسد التركي.

فعلى القسم التركي من قبرص صرّح أردوغان بأن تركيا لا يمكن أن تقيم علاقات مع بلد لا تعترف به أصلاً، موجهاً كلامه إلى حكومة القسم اليوناني من قبرص، في تحدٍّ واضح للاتحاد الأوربي. وعلى المقلب الآخر من الحدود وقف رئيس أرمينيا سيرج طور سركسيان  مخاطباً الطلاب الأرمن قائلاً: إن جيله قام بما عليه واستعاد إقليم ناغورني قره باغ من أذربيجان. أما استعادة جبل أرارات المقدس لدى الأرمن فمتروك لهمة الجيل الجديد. أما الأكراد وخصوصاً حزب العمال الكردستاني فقد استعادوا زخمهم بقوة ما يسمى الربيع العربي، ووضعوا الحكومة التركية في موقف محرج. فهي تطالب دولة ذات سيادة بتنفيذ إصلاحات والقيام بإجراءات ترفض هي تنفيذها داخل حدودها بذريعة تهديدها للأمن القومي التركي.

وهكذا نرى أن سياسية تصفير مشكلات لحكومة حزب العدالة والتنمية التركي تحولت إلى مشكلات مع كل المكونات الاجتماعية، دينية كانت أم قومية، داخل حدود تركيا أو خارجها. فلم تعد مشكلة تركيا مع دول، بل تعدتها إلى حزازت بين الشعوب، ذلك أن تركيا عندما وضعت مخططاتها لم ترَ إلا نفسها على الساحة الإقليمية، متجاهلة وجود قوميات لها خصوصياتها الدينية ومكوناتها الاجتماعية، وكأن مخططيها لم يتجاوزوا العصر الذهبي للأتراك في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

العدد 1104 - 24/4/2024