المثال واقعي فقط..

يشعر الكثيرون بالأسى والكآبة لِما وصل إليه الربيع العربي في بعض بلدان الربيع المُنجز، كتونس ومصر. ويبرز دائماً الأسى في التفاصيل اليومية والمكررة التي تخص الحريات العامة والفردية، وخاصة أن الإعلام العالمي والعربي أصبح متابعاً لهذه القضايا بدقة شديدة. وتحول الإعلام إلى عين صقر شديدة الملاحظة وسريعة التصيد. وبذلك أصبح التفاعل اليومي السياسي للمجتمعات العربية تحت رقابة شديدة، تنقل الشأن العام الداخلي للدول إلى مشرحة النقد أو الملاحظة. بالتالي أصبح الشأن العربي يومياً وشديد التثبت والتذكر لدى الناس، بالطبع هناك أمور تمرُ بوصفها أحداث عابرة، لكن لا يُستثنى الكثير من الأفعال التي لا تكون بمنأى عن البحث والتمحيص والدراسة والتمثل، وبالتالي تتحول إلى شأن عام يُذْكر ويُذَكر به دائماً، بوصفه نتيجة تؤثر على مجرى سياق عام، خاصة إذا كان هذا السياق العام هو المجرى للربيع العربي.

ونذكر مصر وتونس خاصة لما تحملان من ماضٍ وواقعٍ فعلي للدولة القوية والعميقة، تظهر سمات تعيق الحريات الفردية، مع اعتلاء منظومتين سياسيتين متشابهتين، إسلاميين بالواجهة و الباطنة، مشاريعهما تاريخياً أخلاقية، ولا يحملان أي صفات بنائية لتنظيمات سياسية واعية، أو منتجة، و لا تاريخ لهما فيما يخص السلطة السياسية الناظمة، أتيا من الظل الأكبر لمجتمع مُغيب بغالبيته عن السياسة بوصفها تحققاً فعلياً للإرادات. ولهذه التنظيمات السياسية بديهيات، وقبليات تُريد أن تسوغها داخل المجتمع، بأحقية الشرعية والانتخابات، فصناديق الاقتراع أوصلتهم بكل يُسر إلى مكاتبهم الناظمة، وما عليهم من مهمات أصبحوا يتحكمون بطريقة تنفيذها، خاصة أنهم بالواجهة الصورية المجردة فقط ورثة شرعيون ومباشرون لربيع عربي كامل النضال والكفاح.

لا تُشكل هذه التنظيمات السياسية أدوات فعلية أو حقيقية داخل المجتمع، بل هي حيزات أخلاقية متنوعة، ذات مصدر رافدي واحد، هو المصدر الديني الإسلامي الضيق باستطاعته الواسعة ليرفد السياسة بكل مكنوناتها الأخلاقية التاريخية المطلوبة على حد تصوراتهم طبعاً. فرغم البعد التاريخي لعدم انفصال السياسة عن الأخلاق يوماً، لكنها تأطرت حديثاً بشكل (وضعي)، ليكون (الخير والشر) داخل منظومات القوانين العامة والمجردة، والتي تصيب مصلحة وتنفي أخرى، ولا تقوم بوصفها إعاقة للحريات الفردية والسلوكيات اليومية. إلا أن الكلام يسير دوماً، وللنقد أحياناً هفوات تُقلل من حالات الإنتاج، أو الإيجاد، حتى. على ما اعتقد أن الخطأ الأكبر لدى التنظيمات العلمانية بكل تنويعاتها أنها تُركز على الفشل المصدري للتنظيمات الإسلامية، وذلك على حساب المتانة المرجعية التي استلهمتها أجيال الخمسينيات والستينيات، والسلطويات العربية كافة. فخلال الأربعين عاماً الأخيرة، شهد مفهوم الدول سخطاً أخلاقياً شديد التجذر لدى المجتمعات العربية التي حكمتها جمهوريات خاصةً، وذلك لفساد الدول العلمانية الحديثة عربياً، ولفشلها في حل القضايا التنموية والأساسية لدى مجتمعاتها.

وغياب السياسة والافتعال الاجتماعي مصيبة جدية، وعلى المتعاملين معها توخّي الدقة، في إيجاد السبب الرئيسي لسخط الناس على الفاعلين الحقيقيين في بناء الدول، وخاصة في ما بعد الثورات!

المُشكلة الأكثر وضوحاً التي على الفاعلين مواجهتها هي بناء الدولة بتكويناتها المختلفة والمجردة، وتعبئة الفراغ النظري والمفهومي والسلوكي للدولة التقليدية العربية والتي شهدتها المجتمعات العربية لنصف قرن تقريباً، فزوايا الدولة القديمة فاسدة، وضعيفة، وغير منتجة لمتطلبات مواطنيها ولا تُسيِّد القانون على الأباطرة الحكوميين… هذه المشكلات تجعل للإسلاميين ظهوراً استثنائياً بسبب حيزهم الأخلاقي المُكرس واستغلالهم لمكر التاريخ بكل أحقية، أي عندما يندمل مضمون أرقى التشكيلات التي على الإنسان أن يرتمي في عقلانيتها أي (الدولة).

بعد أن سيطر الإسلاميون على معظم تفاصيل الإجراء البنائي للدولة في بلدان الربيع العربي يجب تحمل ذلك بصبر فعلي وحقيقي، وأرى في بعض المفاصل تركيزاً شديداً على الطريقة التي يقود بها الإسلاميون دفة الأمور. ويجب التفريق دوماً بين أمرين شديدَيْ الأهمية:

أولهما: ما يؤطره الإسلاميون على صعيد الثقافة اليومية، وهو ما يثير الكثير من الأضواء الإعلامية، والتي أرى أنه لا بد من تحملها لأنها لا تؤثر كثيراً على مجرى الفعل والعمل السياسي. والثاني هو ما يؤطره الإسلاميون بوصفه طريقاً للعمل والتنظيم السياسي، كالمواد الدستورية التي ستأخذ شكلاً ماهوياً ومجرداً وثابتاً، والتي على الجميع الوقوف في وجهها سلمياً طبعاً، وبطريقة مطلبية استراتيجية، للحول دون انكسار البلدان باتجاهات رجعية بشكل تام. فالديمقراطية والرجعية لا يسيران بخطٍ مستقيم أبداً.

حماية العمل السياسي استراتيجياً من المهام الصعبة في أيام السيطرة الكاملة للأحادية السياسية الدينية، لكن على الإجراء الديمقراطي أن يسير بمحاذاة واعية ودقيقة من القوى العلمانية كافة وخاصة اليسارية، التي عليها تحفيز الناظم الحكومي (الدولتي) بالمعنى المضخم، لتسيير الدفة نحو بناء الدولة المجردة االمتعينة بمهماتها البديهية لفصل السياسي الاجتماعي عن الأخلاقي، ولإعادة فصل القوى الاجتماعية باتجاه التطور الأمامي التقدمي (الإيجابي). وحماية بناء الدولة مرتكز أساسي، وبناء الدولة الحديثة يعني القيام بالمهمات الواسعة للدولة البنائية، التي نهضت بمهمات واسعة في العصر الحديث وبالعودة إليها، والعين يجب أن تكون على مقربة من تجارب كثيرة، أخذت الدولة فيها مهام شديدة الثورية كفنزويلا مثلاً.

الحياة اليومية لدول الربيع العربي متباينة، لكنها بالعموم متقلبة ولا نتائج محسوسة ومتعينة لها، بالقياس طبعاً على المطالب الثورية التي نهضت بها. لكن للنضال أوجهاً واسعة، والبذرة التي تحمل صفة القوة والكمون، ستبقى في الشارع وفي أصوات الجماهير، التي لن تنأى عن وجودها المكرر تحت الشمس إن كان الركود سيكون موقفاً ثابتاً من جديد.

العدد 1104 - 24/4/2024