أصحاب اللّحف المقطّعة

الشيوعية هي واحدة من أنضج أفكار فلسفة كارل ماركس التي اقتربت في سعيها من حلم البشر في العدل الاجتماعي والدولة البسيطة الخالية من أجهزة القمع، والتي يُدير فيها الناس شؤونهم بأنفسهم. وقد اشتق المعاصرون اسم الشيوعية على المصدر الصناعي من الشيوع، وفعلُه شاعَ، وهو الفعل اللازم للفعل المتعدي أشاع إشاعةً، وأدى هذا الاشتقاق المستحدث إلى أوهام كثيرة ضارة، فقد اعتقد الكثير من الناس أن هذه بدعة من بدع العصر الحديث جاءتنا من الغرب، والاسم قد يكون حديثاً والمسمى قديم، ولا ملازمة بين الاسم والمسمى لأن الاسم متغير والجذر ثابت.

 2

 ذات يوم سألتُ هادي العلوي البغدادي-رحمه الله-: ماهي الشيوعية في اللغة والحياة؟ أجاب بكلمة واحدة: التسبيل… والتسبيل والمشاعية والشيوعية أسماء مترادفة لمسمّى واحد. والمشاعية بالتعريف الاقتصادي تضاد الملكية، فالمشاع لا يملك، ويتشكل تاريخ الشرق من الصراع بين المشاعية والتملك. والتسبيل عند أهل الشرق يعني وضع المال، أو ما يَنُوب عنه، في السبيل، الذي هو الطريق، أو جعله في سبيل الله، أي توزيعه على عباد الله. والمصطلح أورده فيلسوف المعرة بقوله في اللزوميات:

ففرِّقْ مالكَ الجمَّ وخلّ الأرضَ تسبيلا

 والمال والأرض-ظاهرها وباطنها-كلّها لله في عرف أهل الشرق، والمتسول الذي يقف على أرصفة المدن المكتظة بالناس المتخمين ويطالب بحقه: من مال الله، يعي أصول الشيوعية -على بساطته وأميته-أكثر منا نحن الذين ندّعي فهمها.

3

وماء السبيل مِرفق عام يُقدّم ماء الشرب مجاناً للناس، وهو من أشكال المشاعية في الشرق. وقد ذكر الباحث المؤرخ فايز قوصرة في كتابه (من إبلا إلى إدلب) أحد عشر سبيلاً في مدينة إدلب -في الشمال السوري – تتوزع في حاراتها حين كان الماء عزيزاً في منتصف القرن الثامن عشر. وقرأتُ في كتاب (نزهة الأنام في محاسن الشام) للعلامة عبد الله بن محمد البدري الذي عاش في القرن الرابع عشر أن أصحاب البساتين في غوطة دمشق كانوا يضعون الفواكه في أجران حجرية ضخمة على أبواب البساتين، ومَن يحتاج من أبناء السبيل يأخذ منها حاجته. وفي البساتين من يزرع أشجاراً للفقراء يعرفونها بالتكرار، وغالباً ما تُزرع على تخوم الدروب ليتناولها الدَّرّابة. وكان جدّي عثمان دحنون -رحمه الله-فلاحاً مرابعاً، يستأجر الأرض ويأخذ ربع إنتاجها، ومع ذلك يحمل من حصته من ثمر التين والعنب وخضار الصيف إلى بيوت الفقراء والمساكين.

4

على الشيوعيين أن يستلهموا من هذه الأفكار ما يتناسب مع عصرنا الحالي ليستطيعوا الاندماج في واقعهم الاجتماعي المعيش. بمعنى أن يكون حضورهم في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية حتى لا تقتصر فعالياتهم على العمل السياسي الإيديولوجي الذي يهرب الخلق منه هروب السليم من الجربان. وأظنها بادرة طيبة أن يكون للشيوعيين مطاعم شعبية مجانية منتشرة في أرجاء البلاد يدخلها مَن شاء، ليأكل ما شاء، كما يشاء، دون حسيب أو رقيب. وإطعام الخلق مهمّة جليلة تستحق من الشيوعيين العمل عليها في كفاحهم اليومي.

5

 هل تحارب بعض الأحزاب الشيوعية اليوم الشيوعية؟ نعم، أعتقد ذلك. لأن الشيوعي -في ظني- عنده وجدان وضمير وشجاعة وقيم وأخلاق وإيمان. وهو في الأصل (مناضل اجتماعي) لا تحكمه السياسة، بل يحكمه الضمير والوجدان. ولينظر كل شيوعي إلى ما آلت إليه أحوال الخلق في هذه السنوات العجاف، ويُفترض من كل شيوعي أن يكون مع الخلق ضد من يسعى لإذلالهم في معيشتهم. وأذكر حادثة تعود بالزمن إلى عام 1934 عندما كان الجيش الأحمر للعمال والفلاحين الصينين يقوم بتحرك استراتيجي كبير، من مقاطعة جيانغشي في الجنوب إلى الشمال، في مسيرته الشهيرة التي قطع فيها 12500 كم. مرّ الجيش الأحمر بمقاطعة هونان وأقام بعض أفراده في بيوت الفلاحين. عندما غادروا هذه البيوت قَطَعَ كل فرد من الجيش الأحمر لحافه إلى جزأين، أخذ جزءاً، وقدم الجزء الآخر للفلاحين الفقراء. بعد خمسين عاماً من ذلك، زار أحد الصحفيين هذه المقاطعة، حيث حكى الفلاحون هناك له هذه القصة، وقالوا: الشيوعيون هم أولئك الذين قطعوا ألحفتهم لتقديم نصفها للفقراء.

العدد 1105 - 01/5/2024