سياسات التثبيت والتكييف لترسيخ التبعية والتخلف

منذ نشأة الرأسمالية نظاماً عالمياً، وهي تسعى إلى تكييف الأجزاء غير الرأسمالية في العالم كي تتلاءم مع الحاجات المتغيرة والأزمات المختلفة للمراكز الرأسمالية، وهو تعبير عن شرط ضروري ولازم لاستمرار النسق الرأسمالي العالمي. لذلك فمجموعة المصطلحات التي أفرزتها البنية الرأسمالية العالمية، مثل عمليات التكييف والتثبيت، التي يجري الترويج لها منذ السبعينيات في كتابات المنظمات الدولية الرأسمالية المتخصصة (الصندوق والمصرف الدوليين)، لا تشير إلى ظاهرة جديدة، بل هي قديمة قدم النظام الرأسمالي، وتعاد الآن صياغتها على أسس جديدة ثابتة الجوهر.

فالليبرالية الاقتصادية هذه التي يروّج لها، لم تكن نتاج تطور منطقي لعلاقات القوى الاجتماعية، وهي تختلف عن الليبرالية السائدة في البلدان المتطورة التي نقلت إلى الإنسان العديد من الحقوق والحريات والضمانات.

لذلك ارتكزت أيديولوجية هذه المفاهيم الليبرالية وأصولها الفكرية على تحقيق أهداف فعلية, عدَّدَها أستاذ الاقتصاد في السويد صالح ياسر حسن:

– زيادة في البطالة, لضمان خفض معدلات الأجور الحقيقية, وتوفير عنصر العمل الرخيص أمام الشركات المتعددة الجنسيات.

– طرد الدولة من الحقل الاقتصادي, مما يفتح الطريق أمام الرساميل الأجنبية لفرض هيمنتها على الإنتاج المحلي.

– العمل على التدمير المنظم والتدريجي للطاقات الإنتاجية المحلية, من خلال إرغام البلدان النامية على انتهاج مبدأ تحرير التجارة الخارجية, مما يؤدي إلى تدمير الصناعات المنتجة على المستوى المحلي.

– العمل على توفير رصيد كافٍ من العملات الصعبة، ليس بهدف تمويل عملية التنمية, ولكن ليكون أساساً لتمويل تحويلات أرباح ودخول الشركات المتعددة الجنسيات العاملة بالبلدان, التي تطبّق وصفة التكييف الهيكلي, ولتمويل واردات هذه البلدان, وتمكين الدولة من تسديد التزاماتها الناجمة عن عبء المديونية الخارجية.

– التأثير في العلاقات الاجتماعية المحلية، بوساطة العمل على خلق فئات اجتماعية تستفيد من حزم السياسات التي تتضمنها برامج التكييف الهيكلي، حتى تكون تلك القوى أساساً أو قاعدة متينة لسلطة الدولة, وبالتالي لها مصلحة فعلية باستمرار تنفيذ هذه البرامج بأشكالها المختلفة. وبالمجمل العام تبلورت آثار تطبيق هذه المفاهيم والسياسات (في البلدان المتخلفة) في شكل إعادة إنتاج التخلف والتبعية بطبعة جديدة أو شكل ظاهري جديد. وذلك بإضعاف الدولة في المجال الاقتصادي والاستحواذ على الفائض الاقتصادي الذي كانت تتحكم به، وإدخال تغييرات جوهرية في هيكل توزيع الثروة و الدخل على المستويين الأفقي والرأسي للشرائح الاجتماعية, وزيادة معدلات البطالة, وتدمير العديد من الفروع الإنتاجية غير المهيأة للمنافسة العالمية، وهبوط موارد الموازنة العامة للدولة، والذي فتح سقف العجز فيها، وبروز أزمة حادة في حقل الخدمات الاجتماعية…

لقد بدأت سورية منذ عام 1986 تطبيق برنامج إصلاح اقتصادي بطيء ومتدرج (نبيل المرزوق, 2008), يأخذ بتوصيات صندوق النقد الدولي في حزمة من سياسات التثبيت الهيكلي, دون أن تكون سورية ملتزمة تجاه الصندوق أو المؤسسات المالية الدولية. وقد تمثلت تلك الإصلاحات بتقليص الإنفاق العام بشقيه الجاري والاستثماري, بوساطة تقليص الدعم للسلع الاستهلاكية, وتجميد الأجور ووقف التعيين في الدولة بالقطاع العام, ووقف التوسع للقطاع العام الإنتاجي…إلخ.

هذه الإصلاحات, وغيرها, نابعة من ضرورة واقع التطور للبنية السورية, فهي دليل صارخ على حركة التطور وصيرورة التبعية للمراكز المتقدمة الغربية, ولسياسات المؤسسات المالية العالمية.

لقد أوصلت القوى المسيطرة (الطبقة السائدة) في البلدان النامية والمتخلفة تطور القوى المنتجة إلى مأزق, نتيجة استنزاف متواصل لقطاع الدولة من جانب الفئات الاجتماعية التي أنتجها التطور التبعي, والقطاع الخاص الرأسمالي.كذلك تراجعت نسب الاستثمار العام في الصناعات التحويلية نتيجة عدة عوامل, أهمها: الإنفاق المتعاظم على العسكرة والتسليح، وإشباع الحاجات الأمنية. وهذا ما يؤدي إلى النتيجة المنطقية المتمثلة بانفجار تناقضات داخلية, وضرورة اتخاذ صيغ جديدة لا تؤدي إلى تغيير البنى الفوقية, بل اتخاذ صيغ أخرى مثل تبني الخصخصة والانفتاح المالي.

العدد 1105 - 01/5/2024