شركات قُتلت برصاصة صانعي القرار الاقتصادي غير الرحيمة

يتذكر السوريون، بشيء من الحنين، أسماء عدد من الشركات والمؤسسات التي عملت في مختلف المجالات، ثم اختفت من الساحة الاقتصادية، بقدرة صانعي القرار الاقتصادي الذين حاولوا لبرلة الاقتصاد الوطني، وجره إلى حيث انهياره ومقتله. ومع رفع لافتات الإصلاح، وإعداد مشروعات القوانين والقرارات، وإنجاز الدراسات المتعددة، للبدء بالعملية الإصلاحية، لم تتكلل هذه الجهود بالنجاح، وراوحت بين التقاعس عن التنفيذ، وتضييع الوقت، وإهمال وضع هذه المؤسسات والشركات العامة. إلى أن بِيع بعضها أرضاً عقارية فقط، كما حدث مع عدد من شركات الصناعة التي اشترتها وزارة التربية، وقضي الأمر. إلا أن النتائج السلبية التي ترتبت على هذه الإجراءات، يحصدها الاقتصاد الوطني في الوقت الحالي، بعد سقوط كل المقولات الشعاراتية المستندة إلى إشراك القطاع الخاص في التنمية، ومنحه حق ممارسة دوره الاقتصادي والتنموي والاجتماعي، ليتبين أن عدداً كبيراً من الذين طرحوا وسوقوا هذه الشعارات، حزموا حقائبهم عند أول منعطف تاريخي تتعرض له سورية، والمتمثل بالأحداث الجارية الآن.

وكانت لافتة التصريحات التي أدلى بها وزير الصناعة عدنان السخني، التي أقر فيها بوجود (قرارات اتخذت في المرحلة السابقة أضرت بالاقتصاد الوطني)، وهذا الرأي يضع النقاط على الحروف، ويؤسس لمرحلة جديدة يمكن فيها الانطلاق نحو إصلاح شركات تعود ملكيتها إلى الشعب، بينما عاملتها الحكومات المتعاقبة على أنها ملك لها، على اعتبار أن الحكومة هي الدولة والنظام، دون أن تسمح للرأي الآخر بتقديم ما لديه، فكان القرار الحكومي ملزماً رغم عدم مناقشته على الصعيد الوطني. ولدينا من الأمثلة الكثير للدلالة على هذا التوجه الخطير، ومن أبرزها وصف رئيس الحكومة الأسبق محمد ناجي عطري قرار رفع سعر المازوت بـ (الوطني)، بينما أدى إلى كوارث اقتصادية حقيقية انعكست على الواقع الاجتماعي مباشرة، لاسيما عندما قررت تلك الحكومة بعد عامين من قرارها المفصلي المذكور آنفاً التوقف عن تقديم التعويضات للمواطنين للتقليل من حجم خسائرهم والتخفيف من معاناتهم.

مايثير الحزن والاستياء، أن أكثر من 20 عاماً مضت على البدء ببعض الخطوات الإصلاحية، أولها كان الإدارة بالأهداف، ولم تثمر تلك الجهود، بل إن القطاع العام الصناعي، بدوره الرائد والأساسي في التنمية، فرضت عليه القرارات الحكومية البقاء مراوحاً في مكانه، رغم كل التطورات التي شهدها العالم الصناعي، والتغيرات التجارية التي بلاشك أول ما تستهدف الصناعة ومنتجاتها غير المنافسة. وبقاء الصناعة هذه الفترة الطويلة على حالها، تقف في عنق الزجاجة، كان كفيلاً بإيصالها إلى حال يرثى لها، لتكون لقمة سائغة أمام أعداء الدولة التنموية التي تعتمد على القطاع العام موئلاً وحامياً لها، والانجرار خلف الدولة الريعية.

في الاقتصاد لا مكان للعواطف، وفي الأرقام المحاسبية ودراسات الجدوى الاقتصادية، يتنحى جانباً كل ما يمت بصلة إلى الحالات الإنسانية والعاطفية التي يُجمّلها الاقتصاديون عادة بالحالات الاجتماعية أو الدور الاجتماعي. كما أنه لا مكان في الاقتصاد للحنين كثيراً، هذه الحالات تصلح في كتب الأدب كنوع من التشويق، إلا أن الاقتصاد يقفز فوقها، ليس تكبراً، إنما لكي لا يقع في المحظور. ومع هذا لابد من التذكر بشيء من (الحنين)، بعض الشركات التي لايمكن أن تمحى من مخيلة جيل أو أكثر نظراً لدورها المعروف في الاقتصاد الوطني في الربع الأخير من القرن الماضي، كشركة أقلام الرصاص، والفرات للجرارات، وكنار، والكونسروة، والخماسية وسيرونيكس …إلخ، ومعامل عدة في الصناعة، لنتساءل: هل مضى عمرها الزمني؟ ولماذا شركات الألبان خاسرة؟ وبالمسطرة ذاتها يمكن القياس على شركة مثل الكرنك، التي تميزت بأنها إحدى أهم شركات النقل في سورية، ووئدت لتفسح المجال أمام شركات القطاع الخاص للعمل، ما يضع العقل بالكف فعلاً! وتحاول وزيرة السياحة  هالة الناصر إيقاظها من سبات بدأ مع صدور المرسوم 10 المتعلق بالاستثمار عام 1991.  وكذا في المصارف، وليتذكر الجميع أن إلغاء مصرف الاستثمار قبل سنوات أثار من التساؤلات الكثير حول رغبة الحكومة في دفع وتشجيع الاستثمارات وإلغاء مصرف متخصص بهذا المجال في آن واحد، مع أن العقبة التي تقف في وجه معظم المستثمرين، ولاسيما في المشروعات الصغيرة والمتوسطة، هي التمويل؟

ببساطة شديدة ثمة مؤسسات قُتلت برصاصة اللارحمة، وبرصاصة المصالح الضيقة جداً، وهي تخفي خلفها فساداً كبيراً، ولابد من محاسبة كل من ساهم في موت أو إلغاء شركات كان لها تاريخ طويل في الحياة الاقتصادية، بالتوازي مع الانطلاق في مشروع إعادة إحيائها من جديد.

العدد 1107 - 22/5/2024