السلطة المالية وانهيار اليورو

كان إيغناثيو رامونيه يقول: (واضح أنّه لا توجد داخل الاتحاد الأوربي أيّة إرادة سياسية لمواجهة الأسواق وحلّ الأزمة)، ويذكر أيضاً: (جليّ أنّ المسألة ليست مسألة رداءة وعدم كفاءة وحسب، بل هي تواطؤ فعّال مع الأسواق).

فـ(الأسواق) تهيّئها البنوك الاستثمارية وشركات التأمين وصناديق التقاعد وصناديق التحوّط (hedge funds). ولهذه الأسواق أهمّية كبيرة لأنّه إذا ما حرّك الاقتصاد الفعلي (شركات السلع والخدمات) ما يقدّر بـ 45 مليار يورو على مستوى العالم، فإنّ شركات التمويل تحرّك قيمة 3450 مليار يورو، أي أكثر بسبعين مرّة. وهنا تكمن مشكلة كبيرة.

إذا ما أضفنا إلى ذلك تزايد شغل أشخاص مرتبطين بشركات تمويل كبيرة لمناصب مفصلية في حكومات الاتحاد الأوربي، فإننا ندرك سلطة الرأسمال المالي الهائلة.

ولا يمكن لأيّ اقتصاد وطني، مهما كبر، أن يصمد أمام هجمات (السوق). وهكذا كان سقوط الحكومات في إيطاليا واليونان. لكنّ هذه السلطة غير كافية للإخلال بتوازن اقتصادات بأكملها، بل تلزم أدوات أخرى.

ديناميكية النهب المالي

تضرب الأزمة الاقتصادية الاقتصادات الكبرى على الصعيد الدولي، لكن المشاهد الأكثر دراماتيكية تحدث في أوربا، وذلك بسبب تكوين اليورو بالذات.

إنّ دولاً مثل الولايات المتحدة واليابان، على الرغم من المشكلات الاقتصادية الهائلة، تواجه الأزمة بأحسن طريقة بفضل مصارفها المركزية. فدور أيّ مصرف مركزي يقوم على طباعة النقود التي تُستعمل في شراء الديون العامة، بتخفيض معدّل الفائدة. وهكذا، وحين تضارب الشركات المالية الكبرى على سعر السندات، تلجأ الدول إلى مصارفها المركزية وتطبع النقود لشراء الدين العام بأن تحدّ من المضاربة. لكنّ ذلك غير ممكن في الاتحاد الأوربي.

مشكلة الدين العام في أوربا هي في أنّه لا يمكن لمصارفها المركزية طباعة النقود ولا شراء ديونها العامّة. وهكذا تصبح الدول بلا أيّة حماية. فالمصرف الوحيد الذي يستطيع طباعة النقود هو المصرف المركزي الأوربي، لكنّه لا يملك، بموجب المادة 123 منه، شراء سندات.

وإذ لا يمكنها الاقتراض من المصرف المركزي الأوربي، تتحوّل الدول إلى المصارف الخاصة التي عليها أن تدفع لها فوائد بمعدّل 7% كما هي الحال في إيطاليا. غير أنّ المفارقة تكمن في أنّ هذه المصارف تقترض من المصرف المركزي الأوربي بمعدّل فائدة 25,1% فقط، ما يدفع الدول للاستدانة أكثر فأكثر. وبالتالي يزداد الدين العام، لا بسبب تكاليفه بل بسبب الفوائد الواجب دفعها.

وبموجب هذه السلطة التي تعطيها للأسواق بنية اليورو نفسها، قرّرت الأسواق الهجوم. وكانت اليونان وإيطاليا أوّل من وقع، ما جعل ممثّليهما يصلون إلى السلطة مباشرة من غير الحاجة إلى انتخابات.

لكنّ المصارف التي تُؤرّق عيش منطقة اليورو ليست أمريكية ولا صينية، بل هي مصارف أوربية، لأنها تمتلك الجزء الأساسي من الديون السيادية الأوربية.

فإذا ما تبيّن أنّ دولة خرجت عن طاعة أوامر المصرف المركزي الأوربي وصندوق النقد الدولي، ضاربت البنوك ورفعت معدّل الفائدة الذي على الدول دفعه، وهكذا حتّى تؤدي بذلك الاقتصاد إلى الانهيار. يفرضون على الدول تسويات وتدابير تقشّفية لتهدئة الأسواق.

تعمّق الركود

أعلن روبيني مؤخراً: (ثمّة احتمال كبير لركود آخر في معظم الاقتصادات المتقدّمة). وتعي أوربا ذلك. لذلك اجتمع وزراء مالية منطقة اليورو لمناقشة اتفاق مالي جديد، واتفقوا على وجوب أن يكون العجز المالي السنوي أقلّ من 5,0% من الناتج الإجمالي المحلي.

إلاّ أنّ اقتصاديين مثل ستيغليتز ينتقدون سياسة التكيّف المالي تلك، لأنّها (لا تحلّ الأزمة الاقتصادية)، ويشير إلى أنّ العجز المالي (لم يكن أصل الأزمة، بل الأزمة هي التي ولّدت العجز المالي). ونرى أنّ هذا الإجراء لا يحلّ المشكلة إنّما يؤجّلها.

والتوّقعات غير مشجّعة لأوربا. فتوقعات منظّمة التعاون والتنمية الأوربية لمعدّل نمو اليورو هي 2,0% فقط. وهناك أيضاً خطر الركود في فرنسا وألمانيا، وهما اقتصادا اليورو الأساسيّان، إضافة إلى إمكانية اتساعه ليشمل بلداناً أخرى في منطقة اليورو. وتتحدّث كريستين لاغارد عن أنّ اتجاه معدّل النمو عموماً يميل نحو الانخفاض.

وخلص مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) إلى أنّ توقّعات الاقتصاد العالمي قاتمة جداً، وخصوصاً لأوربا. وحذّر الـ UNCTAD من أنّ أوربا ستواجه هذا العام ركوداً تاماً.

نهاية (دولة الرفاه)

إنّ (دولة الرفاه) تلك التي أسّستها الدول الغربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لكبح تقدّم الشيوعية في أوربا، تقتسمها اليوم كبريات الشركات المالية اقتسام الغنيمة.  والاتحاد الأورب ي – بـ 25 مليون عاطل عن العمل، و40 مليون فقير و80 مليوناً عند خطّ الفقر- يغرق في حالة من الركود يدفع العمّال عواقبها.

وعبّر عن ذلك الاقتصادي فيسنت نافارو: (جلب لنا اليورو استقراراً نقدياً، وهو أمر مهم وإيجابي)، لكن (الطريقة التي جرت بها الأمور أرست الأسس كي تهاجم أسواق المضاربة دولة الرفاه. فأن تضطر الدول لاقتراض المال الذي تحتاجه من البنوك يضعفها أمام تأثير الرأسمال المالي الذي، مع كبار أرباب العمل، يهاجم دولة الرفاه مجابهة). واليوم، فإنّ أوربا هي آخر معقل لدولة الرفاه التي تقوم على سياسات عامة للصحة والمعاشات التقاعدية، وما إلى ذلك. وتدابير التقشّف التي تقدّمها أنجيلا ميركل لكامل منطقة اليورو تزيل تدريجياً أسس دولة الرفاه تلك. ويضغط الرأسمال المالي لخصخصة قطاعات الصحة والمعاشات وتخفيض الأجور، وتأخير سنّ التقاعد وزيادة ساعات العمل.

أزمة النظام الديمقراطي البورجوازي

(المشكلة الأساسية هي في أنّه تمّ وضع إطار اقتصادي تُتبع بموجبه الديمقراطية للأسواق المالية)، بهذه الطريقة يعبّر ستيغليتز عن رأيه في سقوط الحكومات في أوربا. ذلك أنّ فرض باباندريو ومونتي على حكومتيّ اليونان وإيطاليا انتهك النظام الديمقراطي الذي يعمل الاتحاد الأوربي فيه.

وبالمثل يقول الاقتصادي مارشال أورباك: (إنّ ما يجري في أوربا هو انقلاب مالي حقيقي يقوم به من تسبّبوا بالأزمة أنفسهم).

يبدو أنّ لا شيء يوقف الرأسمال المالي عن وضع حكومات من التكنوقراط، وهذا هو منطق الرأسمال الكبير: توسّع وسيطرة على الاقتصادات بأكملها. وكان ميلتون فريدمان، أبو النيوليبرالية يوجز: (تحقيق الأرباح هو جوهر الديمقراطية). وتلك هي الديمقراطية للرأسمال المالي والنظام الرأسمالي. وها هي ذي أنجيلا ميركل تشكّل (ديمقراطية توافق الأسواق).

انهيار اليورو

قال ساركوزي: (لم تكن أوربا يوماً على هذه المقربة من الانهيار)، وعلى الشاكلة نفسها جاء تعبير ستراوس كان: (توشك منطقة اليورو على الغرق).

وتعبّر التصريحات الأخيرة هذه عن التشاؤم من وضع اليورو. فقد ولّت تلك العبارات الرنانة التي قيلت قبل 4 سنوات عن أنّ أوربا لن تتأثّر كثيراً بالأزمة. ليس الساسة وحدهم من يعبّرون عن تشاؤمهم، إذ يتنبّأ العديد من الاقتصاديين بأزمة أكبر في منطقة اليورو. وكروغمان أحدهم: (تدمّر أزمة اليورو الحلم الأوربي). غير أنّ الأزمة لا تقتصر على المجال الاقتصادي، بل تؤثّر على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. وهكذا يتحدّث كثيرون عن انقسام داخل الاتحاد الأوربي. فقد ذكر فوكوياما، أحد معلّمي النظام الرأسمالي: (أكثر ما هو مرجّح هو أن تستفيق اليونان ودول أخرى وتدرك أنّها تفتقر لفرص النمو الحقيقيّة إن لم تنسحب من منطقة اليورو. وهكذا ستنتهي بأن تغادر). ويقول كروغمان الشيء نفسه فيما يتعلّق بإيطاليا.

ما يختبئ لليورو من الآن فصاعداً هو الركود الذي يؤثّر على ملايين الشغّيلة، والذي لن يستفيد فيه سوى حفنة من المضاربين. وأمام إخضاع الطبقات السياسية في بلدان اليورو للرأسمال المالي الكبير، يبدو كلّ شيء مرتبطاً بكيفية استجابة السكّان وفعلهم. واليوم لا تطيل الاحتجاجات انتظارنا لها في بلدان مثل إيطاليا.

ت: سلام عيد

عن Globedia

العدد 1105 - 01/5/2024