أوربا: أزمة الفضيلة الضائعة ما بين التقشف والنمو!

كل المعطيات الأوربية تعمل ضد مصلحة القارة العجوز بشكل عام وضدّ عملتها الموحدة (اليورو) بشكل خاص. وما يطفو على السطح من خطابات وتصريحات واجتماعات لا يشبه ما يدور في العمق من ارتكاسات بنيوية خطيرة تتجاوز الاقتصاد لتخترق السياسة والاجتماع. وإلاّ فما معنى أن تفشل اليونان حتى الآن في الحصول على دفعة المساعدات الأوربية الموعودة بها، رغم كلّ المحاباة التي أظهرتها للـ (ترويكا)، ورغم كلّ التنازلات التي قدمتها حكومتها وصادق عليها برلمانها في نهاية الأسبوع الماضي، كاسرةً بذلك إرادة مئات ألوف اليونانيين الذين غصّت بهم الشوارع؟ كذلك ما معنى أن تُكابر إسبانيا على نفسها حتى الآن وتمتنع عن الاستدانة ممّن أسميناهم مرّة بالمرابين الدوليين؟ ولماذا يُعلن العسكريون في البرتغال علناً امتعاضهم من سياسة تغليب خيار التقشف المفروضة على بلدهم؟ ولماذا تمتد حرائق السخط الشعبي إلى كلّ من إيطاليا وبلجيكا؟ ولو عدنا أشهراً إلى الوراء لكان السؤال العريض هو: ما معنى أن تخرج قبل انتهاء ولايتها حكومات كلّ من برلسكوني في إيطاليا، وباباندريو في اليونان، وثاباتيرو في إسبانيا؟ وأن تدعو هولندا ودول أوربية عديدة إلى انتخابات برلمانية مُبكّرة؟

أخيراً وليس آخراً: ما تفسير الغوص للمرة الثانية منذ أزمة 2009 في الركود الاقتصادي، بعد إعلان مركز الإحصاء الأوربي  (يوروستات) الخميس الماضي أنّ الناتج الإجمالي المحلي في دول منطقة اليورو البالغ 4,9 تريليونات يورو (12تريليون دولار) قد هبط بنسبة 1,0% دون أن تتمكن ألمانيا وفرنسا أكبر اقتصاديين في المنطقة من إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟ الواضح من ذلك كلّه أن أوربا عموماً ومنطقة اليورو خصوصاً تعيشان اليوم أزمة كبيرة عنوانها (البحث عن الفضيلة الضائعة ما بين التقشف والنمو). ولو جاء الآن (جوبيتر) كبير آلهة الإغريق ليحمل شيئاً من أشجان بلاده على منكبيه لقال، كما جاء في الكاريكاتور المرافق: (أسهل عليّ بكثير أن أحمل العالم بأكمله من أحمل ديون اليونان)!

لا أحدٌ في منطقة اليورو أوفي الاتحاد الأوربي يجهل الآن السبيلين أوالمدخلين إلى حلول مفترضة لأزمة العجز والمديونية من جهة، ولأزمة الركود والتباطؤ الاقتصادي من جهة ثانية. فالعلاقة الطردية قائمة بينهما على النحو التالي: (خفض العجز المالي والمديونية لا يقوم ولا تتحقق أهدافه بكبح جماح الإنفاق الحكومي فقط، بل تلزمه زيادة عائدات الدولة من الضرائب والرسوم، وهذه الزيادة لا تقوم إلاّ على النمو وعلى زيادة النشاط الاقتصادي).. أمّا مفتاح هذه المعادلة فهو الإبقاء دائماً على حصة من الإنفاق الحكومي الاستثماري. لقد أظهرت إحدى الدراسات مؤخراً أنّ إنفاقاً حكومياً بواقع واحد في المئة في بلد كإسـبانيا، على سبيل المثال يولّد نمواً يتراوح ما بين 2% و3%.

من هنا نقول: إنّ الاكتفاء بسياسة التقشف كخيار بذاته يعني الدخول في خانة الركود والبقاء فيها، حيث خفض إيرادات الدولة وزيادة معدلات البطالة والبؤس والفقر. والأسوأ هو تراجع الطلب الداخلي نتيجةً لتراجع الاستهلاك على السلع والخدمات (وحصته في الاقتصاد الأوربي نحو 65 في المئة كحدّ أدنى)، ما يؤدي حتماً إلى تراجع في الطلب الاستثماري الخاص لتوسيع الإنتاج سلعاً وخدمات، ويؤدي أيضاً إلى تسارع هروب الرساميل الخارجية كما حصل في إسبانيا والبرتغال وايرلندا (واليونان بطبيعة الحال).

فهل يجهل ساسة أوربا ومنطقة اليورو ذوو النفوذ القوي داخل عرش الاتحاد في بروكسل، وفي مقدمتهم المستشارة ميركل وشركاؤها هذه المعادلة وهذه (الّلوغاريتمات) الاقتصادية؟ لا نعتقد ذلك، والصحيح أنهم يتجاهلونها عن سبق إصرار وترصّد!..

العدد 1105 - 01/5/2024