سوريتي يا وجعي النازف

حينما أكون فرحا وسعيداً استيقظ مع فجر العصافير، ألملم بقايا وسني بتثاؤبٍ يطقطق عظامي، حتى إذا انبسط الصبح أمامي مثل قصيدة، ازّينت بشتى الصور، خاطبته كـ(أنا)، عشته لحظة نهوض، وعاشني ومضة انتعاش، وكأنّي بنفسي أنتقم من ليلٍ غاب فيه القمر، واختبأت فيه النجوم خلف غيوم دكناء، فأشبعته رجماً وضرباً، بأسواط من نورٍ، وسلاسل من شِعر.

ويا للعجب أيضا حينما أكون حزيناً كمداً، أستيقظ مع الفجر ذاته، فلا الفجر مضيء، ولا العصافير مغرّدة، ولا الصباح إلا ثعابين تتلوّى في سمّها الناري، فإن خاطبته فلأشتم الوجود، وأن حاورته فلكي ألوذ بالشيطان منه، أرى ليلَ كانون فجري، وعتمة شباط فرحتي، أغزل في لجته قصص القهر والقنوط بصمت.

وبعد أن تهاجم جيوش الحزن حصني، وتقبل علي الهمّة. أتَمرّغ في أحضان ليليَ البائس. أصنع في هدأته أجمل الكلمات، أنسج من خيوطه السوداء عباءات الحكايا، وأغزل من المناديل قصائد وأشعاراً، فأغفو على وله الوجود، وأصحو على شوق العاشقين. أصنع من حبة الشوق قبة، أنزلق عليها، وأفتت بمحبتي جبال الأسى. جبال صنعها أعداء الحياة، حملوا سيوفا لامعة ليغسلوها بدماء طاهرة، أوقفوا البراعم صفاً واحداً، وبأيد خشبية يحصدون عطرها بطلقات الحقد والتخلف، آهٍ يا سوريتي يا وجعي النازف.

أودّع الصباح وفي القلب حسرة، وأنطلق أسير على شوك العمل، فوق رمضاء راكضة خلف لقمة عيش، أصارع أعمدة الغبار، وألوي عنق الجوع بسيل من عرق العافية، أتحدّى الشمس صاهلاً، وأعاند عصف الريح والبرد، عيناي هناك معلقتان برغيف أحمر، وخلفي أفواه تجاهد كي تنام، وأنا على جلد الرجاء أعيش. أدور في أزقة دمشق وأحيائها باحثاً عن شذى الياسمين الذي صادرته أيد مجرمة، وعلقت بدلا من تويجاته رؤوس أطفال تحب الحياة، آهٍ يا سوريتي يا وجعي النازف. 

بعد حين أولي النهار ظهري، وأدير عنه وجهي، لأستقبل على تخوم الأفق الغربي، أصيل يومي، وقد تورّد خدَّاه حياء، وتأرّجت حناياه اصفراراً، يمدّ أذرعه على وهنٍ، ليعصب جبين الشمس بعصابته الحمراء، التي أقلّ ما يقال عنها، أنّها قصّةُ الحبِّ الخجول، والوجع الغائص في عمق الفؤاد، من كان يصدق أن في بلدي كل هذا الحقد، آهٍ يا سوريتي يا وجعي النازف.

وحالما يأتيني المساء أجلس مع خليل مطران، نستعيد معا ذكرى المساءات الطليّة، أستلقي على سطح داري، حيث الأفق مفتوح أمامي بساطًا من شقائق نعمان، أتمدّد لأقرأ صحيفة السماء، فلا أعدّ بريقها كي لا تنبت تآليل بين أصابعي، بل أجول بحدقتي بين النجوم أسمع ضحكاتها ووشوشاتها، أعبّ من بريق عينيها نداوة الفصول، حاملاً بين يدي لوحة عمري الجميلة، لأقول

لك، يا من تحيينني الآن: (سورية ضعي يدَكِ على صدري، لامسي قلبي، عيشينِي قبل أن يهرب الحلمُ فتنسيني وأنساك، آهٍ سوريتي يا وجعي النازف).

العدد 1105 - 01/5/2024