لو كان القلق… رجلاً!

ليس القلق عنصراً طارئاً على حياة الإنسان، وليس أسير مصادفة أو مجرد حالة تذوب بفعل النسيان. لكنه مع إنساننا المعاصر بات شريك يومياته وتفاصيله، بات كثافة الكائن الجديد ولغة مناماته. لطالما كان لصيق حياة المبدعين وحافزهم ليقولوا شيئاً مختلفاً يخرج من رحم آلامهم ومن احتراق ذواتهم لحظة (تطهرهم)، ليجوهروا محكياتهم وسردياتهم، ويقف  متلقيهم  على خط أفق ذلك القلق الفاعل، لا المنفعل، وليجوب آفاق تلك اللحظة متذوقاً تلك (الأوراق) حلاوتها ومرارتها. القلق على خط الرؤيا كائن تراجيدي خفي، مشبع باللايقين وبالتشظي الوجودي، (فأنا قلق إذن أنا موجود)، هكذا بمقابسة مع منهج الشك الديكارتي  نسبة لرينيه ديكارت، صاحب (أنا أشعر بعدم الراحة إذن أنا موجود). لكن قياس الوجود بعدم الراحة. الشك سوف يكون ترفاً نافلاً في مقابل (كائن) عجيب ما زالت (فعلته) في النفوس والنصوص على حد سواء، تشي بمفارقاتها الصغرى والكبرى، على مسرح الوجود!

ترى ما الذي أقلق مثلاً المتنبي وأمية بن أبي الصلت وياسين رفاعية وصدقي إسماعيل، وسعيد حورانية وبدر شاكر السياب وخليل حاوي وجبران خليل جبران، وتشيخوف  وديستويفسكي وإدغار آلان بو، وخورخي بورخيس.. باختلاف (الأنساق الثقافية) ما بين الشرق والغرب؟!

كان القلق هو السؤال الثقيل الذي رمته الحياة بتناقضاتها ومآسيها ودراميتها ذات المتخيل الواقعي بضراوته وكثافة مشهدياته الحارة والداكنة. وعليه ضاعفت مدونات الأدب، ذلك السؤال، ولم تكن أبداً في مواضعها المختلفة لتنتهي إلى كمال أجوبة لما يقلق إنساننا المعاصر. إذ لم يختزل  القلق في زمن معين، بل انفتح ليكون مجازاً إنسانياً ليعبر كائن هذا العصر إلى ما يعادل وجوده وينهض به كقوة مثال، سيتخفف من صراع الثنائيات التي تحكم حياتنا في الأغلب الأعم وتصوغ مصائرنا.

ما حاجتنا إلى القلق، ربما ليستمر كأحجية، أو كلغز على الحياة نفيه أو إثباته. وهكذا نسوّغ للأدب كل نزوعه الأسطوري والعجائبي. يدفع القلق أجيالاً من صنوف المبدعين، والمهمشين بحثاً عن شكل الروح، لا ضجيجها، عن قوة الصمت، بلا بلاغة المكتوب، وعن مدى للصوت العابر للأزمنة واللغات، هازئاً بالحواف الناتئة وبرمال الواقع المتحركة. وثمة من يمتدح القلق بطريقته، فلا نعرف أحياناً أين يبتدئ المديح، وأين ينتهي الهجاء؟

عمتَ صباحاً أيها القلق، نحسبك طائراً فريداً يجيد نقر رؤوسنا، فتنبثق رؤى وأفكار وكلمات، وربما شيطاناً يمكر في التفاصيل، لنضحي بيادق شفت بفعل احتراقها لتضيء أبعد مما تشكله اليدان من غيمة فوق أرض لاهثة لا تستقر. كم أفقت أو أنهضت مبدعاً من عتمته ليسكب روحه على بياض أليف!

سنألفك  أيها القلق  حتى تألفنا يا كائن وحشتنا الهارب واللائذ معاً، أيقلق القلق، ربما لسؤالنا احتمال الصمت المفاجئ بعد عاصفة من كلام أثير، لم تبق سوى رعشة في اليدين وذهول في  الأفق البعيد، حتى تكتبنا وفق مشيئتك، مخاتلاً للبدايات والنهايات، ومتن الحكاية الأولى التي ما زال الوجود يسردها بتغير (الشكل والمقام).

عمتَ مساء أيها القلق، سنأوي إلى كهفك الأزلي، فهل ما زالت صداقتك ممكنة؟ ترى لو كنت رجلاً.. لقلقت أكثر.

و(لو) هذه تذهب حياء اللغة وتبطل من القول حرارته، وتأتي كلغو صريح لتواسي هشاشة ما، هشاشة الكائن وضعفه الجميل، نحن على الأرجح تأخرنا في  رفع أو خفض قبعتنا لك.

العدد 1107 - 22/5/2024