شعريات الورد والقمح

على عجل يطل (الفالانتين) ليذكرنا باستثنائنا الإنساني الفريد. فالأيام مزدحمة، بما لا يألفه القلب، وبما لا تألفه اللغة. يطل إذن على استحياء، كفكرة، كغيمة، كشمس بخيلةفي نهار شتائي أكثر عجلة من إشراقه، أو ككلمة تقاوم استهلاكها، لتثني بترفها ولو مرة في السنة!

يعود العشاق ليستظهروا أول الدروس، وأول العواصف العاطفية، وأولى ارتباكات اللغة، وارتباكاتها الإبداعية، ويعود العشق ذاته لمتخيل اللغة، لتسري ثقافته الراكدة في شرايين الحياة وأوصالها.

ربما ندرك لماذا اختار الإيطالي عنواناً لرواية بوليسية بامتياز هي (اسم الوردة) العنوان المحير فعلاً، والذي اتكأ على دلالة الاسم وانفتاح دلالته، لعلنا نبني هنا محاكاة تتخفف من مصادفتها لنقول: (اسم العشق)، وفي تلك المواربة الأثيرة يتعدد معنى العشق خارج سلطة الأرقام والمفكرات المحايدة!

ليتماهى العاشق مع سفر أفعال إنسانية، تأخذ (روايته) هو عن عشقه، لرواية كبرى إذ تتماهى التفاصيل أيضاً، وتغيم الفواصل. ثمة ما يؤسس هنا (لهارمونية) مستحبة، تنفي شائعة العشق، لتبث وعداً بالجمال الذي يضمِّن الشكل فكراً، ويلتقي الشرق والغرب في ذلك الإرث الموصول، وتصبح البشرية لحظة عشق ولأحلامها أن تحلم، ولنوارسها ذلك اليقين أن بحار العالم، هي قطرة ماء كثيفة، ولطوق حمام الأندلسي، أن يطاول بؤس الحدود، يجوب مختاراً ممالك الرؤيا ويجيد وصل متخيلها.

هل يكفي بحثنا عن ميراث عربي لعيد الحب في غير مكان من العالم؟!

ربما نتوسل ذلك عن قصد، لتتسع المرايا أكثر، وينفتح زمنها على ماضٍ كأنه الحاضر، وحاضر كأنه المستقبل، في أمثولات تتشهى فرادتها، مفارقة أو تماثلاً.

الورد أم القمح في جدلية العشق والحياة؟!

يقول الشاعر الراحل محمود درويش (إنا نحب الورد، لكنا نحب القمح أكثر).

ونسبة الحب إلى القمح تفيض قليلاً عن حب الورد، لكننا لا نجري على نسبتها بمعنى المفاضلة القصوى ما بنيهما، لأن ثمة من يقول لك  دون محاجة طبقية وسواها، أو محاكاة جمالية مدرسية فقيرة الاختصاص  بأن الورد والقمح هما على أفق مجاز العشاق والجياع، ولطالما كان الرغيف كثيفاً بتأويله، والوردة بعض من ذلك التأويل، إذ يصبح الرغيف هاجساً وحلماً منتظراً، وتتصادى في رمزيته حقيقته.

ولكن (ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان)، هي بلاغة الموروث التي تحيل لحداثة ناجزة، جناحاها فكر وحياة، ما يعني أن ثمة امتلاء معرفياً مقصوداً، ينبغي لنا إحرازه، دون أن نتخفف من شغفنا برغيف طازج القلب.

في أزمنة ما، كان (رغيف) توفيق يوسف عواد، الروائي اللبناني الراحل، عابراً للتيه العثماني ولمفارقات (السفر برلك) وأخواتها، وملاحم الجوع والحب، في رواية، تستحضر جمالية الشرط الدرامي في تعالقه مع التاريخ. فالرغيف مركب أزمان وأمكنة وأفعال إنسانية، تعكس عشقه على نحو فريد، فهو الآتي من مجمر الذاكرة، لنتبادل معه عشقنا المعرفي ونرسله هدية لمن نحب قائلين: (صار بيننا خبز وفكر).

وحين نجوع، ثمة أرغفة أخرى تعود بنا إلى قمحنا، كينونتنا الوجودية والإبداعية ولغتنا التي نرثها، كما نرث أرضنا.

هي طقوس أخرى لعيد ما زال يمزج لون القمح، ولون الورد ليطوفا ذاكرة العالم، الذي يسمع خفقاتها في لحظة واحدة ومتعددة، ويرسل أطيافها لسماوات تلتحف غيومها لتبث ماءها في تضاعيف القلوب الواجفة، وفي نسغ أرض تمتد بلا نهاية، لتصبح تلك القلوب وروداً ممكنة، وللأرض حديث قمحها.

وعلى الأفق البعيد  القريب، لن تطوي (بائعة الخبز) كزافيه دومنتيان أرغفتها، ولن يحطَّ (جوع) محمد البسطامي مرساته أبداً، وتظل الأغنية تصدح: (يا ورد مين يشتريك؟!) ويأتي زمن (العشاق) فرادى وجماعات، ربما ليحيي أدواراً على خشبة الحياة، أو ليبتكرها، ما دامت باتساع العشق، ملونة بزمنين: الورد والقمح، وثالثهما الإنسان في شعريات المضافة: المسرات والأحزان وجدليتهما العابرة للنصوص والأزمان.

العدد 1107 - 22/5/2024