نزيف بلا دماء

كانت تجلس هناك.. في فيء شجرة وارفة، تداعب بأصابعها النحيلة صفحة الماء الرائق في جدول صغير، وإلى جانبها عصافير صغيرة تنام على حلم الأمان، وفراشات زاهية الألوان تنقل فرحها بين سحر الأبيض المنسول من زهيرات الياسمين، وحزن بنفسجة تطلق بوح ألوانها القرمزية.

رأيتها..

أسرّت لي الفراشات همساً من بعض بوحها الشفيف، فأطلقتُ كل أمنياتي لترسو ذات وقت بين يديها. رأيت بين عينيها وطناً فسيحاً يسع تعبي، ويجفف سيول شوقي في مسيرة بحثي عن وطني الذي غاب وراء متاهات الضباب.هل تُراني وجدته في خطوط السمرة الطافحة بالأمل، المعشوشبة على تفاصيل وجهها الحزين..؟

كأنها تلك البيادر التي ما زالت تدقّ نواقيسها في زحمة أحلامي. ورأيت في ساحتيّ عينيها ذلك الشفق البعيد الباحث عن شاطئ ليغفو على حِجْرِهِ الأليف.

كانت.. تهمس بحروف أضاءت عتمة المسافة بيني وبينها، تقول للماء شيئاً لم أفهمه، وتمتشق من رمح قوامها رعشةَ معولٍ بين يديّ فلاح كان جدّي، يضرب في صخور أرضه، ويطوف مع نزيف العرق الناضح من جبهته في دوائر التعب الجميل، ويرنو إلى صدر جدتي، يسرح معها في جنّة الحلم، ويغفو هو الآخر على وسادة أمان.

تملكتني مشاعر غريبة.!

لو مددت لها يدي..! ماذا أقول وماذا أفعل.؟

هل هو الخوف أم هي الرهبة.؟

لملمت شتات نفسي، وطيّرت نبضي إليها مع سرب فراشات قبل أن أخطو إليها راجفاً خطوة أخيرة.. أخيرة.. وألمس جديلة من شعرها المستلقي على راحة الكستناء، تكاد أصابعي تمسك حقيقة ذاتي، وتعيش الفرح. فجأة.. انشقت الأرض عن نهر عظيم  كبير وعريض وعميق حال بيني وبينها، وتحوّلت العصافير إلى نسورٍ سرعان ما قذفتني إلى الضفّة البعيدة.

حاولت الخلاص من متاهة الرعب لأصل إليها، جاهدت بكل نبضةٍ من جوارحي لأتعلّق على شفا حديقتها، وما إن حاولت، حتى انزرعت حولي قضبان من فولاذ حاصرتني، وعلى رأس كل قضيب أفعى مرعبة تشتاق دمي.

رباه.. ماذا أفعل.؟ هل أنجو بنفسي أم أصارع أساطير الحلم كي أنتزعها من براثن الضياع.؟

كان النهر يعلو زبداً، والضفتان تعصران ما بقي منهما من حصار، والماء يسطّح التضاريس، ويغمرنا بلا رحمة. إنني أغرق أيها النهر الظالم.. أغرق!

لا يهم.. لا أبالي، لكنها تغرق هي الأخرى.!

هاكِ يدي.. صارعي جحيم الوقت وانتصري!

الأفاعي تمارس أقصى فرحها، وتراقب موتنا، والنسور تحلّق قريبة كي تقتات من فُتاتنا، والقضبان الرهيبة تقترب أكثر فأكثر حتى تلتهم مساحة النَفَس.

رباه.. هو الموت إذن.. فأين أختار قضائي.؟

وحدها الفراشات كانت تبكينا، والفضاء يبحث عن غيمات يستحضرها لتهطل نداها علينا.

مددت يدي..!

يا سارية الوقت، هاتِها منك فقد نجد سفينة الأمان.. لم يعد في متاهات الضياع فسحة للأمل، فأنا أغرق.. أغرق.. أغرق، وهي هناك، في مكان ما تُعذبني، وتعيش في خيالاتي بؤس الأعماق البعيدة. كان النهر العظيم، وهو يأخذ مني حروف العمر، يرفع فوق زَبدهِ بياضي، وكانت الضفّة البعيدة، تزهو بلونٍ بنفسجي ذابل.

رباه، هو الموت إذاً.. هو الموت.!

وقبل أن ألفظ النَفَس الأخير، صحوت من رعب الكابوس، لأجد نفسي ما زلت هنا على الضفّة القريبة، أمارس انتظار حبيبتي السمراء التي أعرفها، تطلّ عليّ ذات وقت مع سرب الفراشات الزاهية لتلوّن حياتي بالأمان والحب والبقاء.

هل هو حلم عايشني ذات وقت؟ أم هي حقيقة طبعت صورتها على ساحة حلمي؟ وأين أجد عذاباتي.. عندها، عند النهر، أم بين الأفاعي؟

صحوت، وعانقت شتات روحي، عدوت عنيداً أحمل صخرةَ إصرار لا تشوبها رفّة حزن ويأس إلى كل الأركان، أواصل البحث عنها، فهي أنا، ولأنها أنا، فهي سرّ بقائي.

العدد 1107 - 22/5/2024