عازف النهار!

في الشوارع الخلفية، تلك الفضاءات المفتوحة على دراما مرتجلة، فطرية لا نصّ لها، فهي المتطيّرة مما كان سائداً..

ثمة ما يستوقفك، بمحض المصادفة أو الضرورة، أو بكليهما معاً:

مثلاً، مشهد تكرّر كلازمة، أو كصورة خلفية تكاد تصبح ثابتة، بفارق مختلف أنها من تنفض الغبار عن ذاتها، غبار الوقت والحروب والأسئلة، لتبثّ جملة واحدة، على اقتضابِ بلاغتها الخارجية وتوسّلها بلاغة داخلية، أكثر إيحاء أو اعتمالاً بشجن لا يستنفد، أما المارة، فوحدهم من يكملون إيقاع المشهد، شعريته الغائمة ونثره الطليق..

* مشهد حضر فيه صدى (العود) الذي يرسل نغمات مشغولة الحنين، ممزوجة بصوت رقيق دافئ لرجل ثمانيني يعتمر طربوشاً أحمر، ويجلس على كرسي خشبي صغير، وبجانبه لوحة كتبت كلماتها بالأحرف الكبيرة:

(بدّي غنّي حتى عيش..

وظيفة بإيدي مافيش..

ميلوا اسمعوا غنّية

بغنّي بشويّة بخشيش)!

شيء من السجع، وفق مقتضى الحال، وآخر من مخزون شفوي فطري يستميل الناس ويقرع خزّان عواطفهم، ليجودوا بوصل (قد لا يغني من جوع، ولا يدرأ خوفاً)!.

 وعازف النهار، لا شأن له بعازف الليل، الغافي تحت جمر عتمته، ولا حيلة له سوى التسلّل إلى أحلام النيام، علّهم يسمعون أنين أصابعه وبوح ما تمزّق من روحه، والليل أعمى يقود مبصرين.

كأن المشهد خارج زمان ومكان بعينهما، يتكرّر هنا، أو هناك وكأننا به يُرسم لأول مرّة، كفرجة لا نهائية، لا تجيد الحروب فكّ طلاسمها، بل تعبر من ورائها كخطوط واهية، أشبه بذكرى، تعبر متثاقلة بغبارها وصداها، إلى كثافة أقدارها، ولعلّها -بمنطق ساخر- تقف متفرجة هي الأخرى، على موسيقا تغريها بالتشبّه بها، واستعارتها لتضبط -ربما- إيقاعها الفوضوي، ولتحاكيها قليلاً علّها تطهّرها ولو قليلاً.

حكاية (الثمانيني) في غير مكان، ليست صورة عابرة من (ألبوم) صور منسيّ هناك، وليست لحظة منتقاة لتخصيبٍ إبداعي فحسب، هي حكاية أخرى لراوٍ عليم هو: الزمن. وكي لا يصبح أولئك (المتروكون) في الأرض، مصادفة على شاطئ الحياة، نهباً لمخيّلة المدونيّن وتأويلاتهم الماكرة، وصيادي الذاكرة المثخنة، فليتركوا كالوشم كلما اكتشف تقحّمت فتنته مجاز الكلام، فصمت الألم كلامه..

* ثمة مشهد إضافي رسم على مبعدة من ذلك (الثمانيني) تخيلوا أن رجلاً نصف عارٍ يقتحم مؤتمراً صحفياً، ينطق ببضع كلمات غير مفهومة على الأرجح، لكن إشارة إصبعه تكفي لأن تشي بتهديد محتمل.

مهلاً، هو ليس شخصية فرّت من خيال مؤلف لرواية (العراء وأنا)، لكنه ولهشاشة ما، أصبحَ بذاته تعبيراً عارياً، إذ لا فكرة واضحة تحتمله ليقول أو يعبّر، سوى أن يتقشّف نصفه الأعلى بفعل زلزال خفي، ربما كان خامداً!

* ومازال السؤال يهجس بي: ترى مَنْ يحاكي مَنْ: الدراما أم الواقع؟!

فيما يقول أدونيس بعيداً عن (طواف الكآبة): (للتاريخ مسرح، لا يستقبل إلا الذين يعرفون أن يروا، الآن، تلك الأشياء التي لا تُرى إلاّ غداً).

عَلّي أدرك الآن لم أولئك الناس مسرعون، ومنهم من لو يستطيع أن يجري على قدميه ويديه ورأسه، ومنهم من لا وقت لديه ليستمع إلى أغنية، ولو كانت على شفة الطريق لعازف نهار بصير..

العدد 1107 - 22/5/2024