هل الولايات المتحدة جادة في مكافحة الإرهاب؟

طرحت استراتيجية واشنطن لمكافحة الإرهاب أسئلة كثيرة حول مدى مصداقيتها وجدّيتها في التصدي لهذه الظاهرة التي زرعت الموت والدمار حول العالم. فمنذ إعلانها الحرب على الإرهاب بعد أحداث الحادي عشر من أيلول نرى أن واشنطن تتحرك حول نفسها، فهي شنت حربين، ودمرت بلدين، وشرّدت شعبين، بينما كانت في الواقع تطارد شبحاً اسمه القاعدة.

هذا الشبح الذي أسهمت واشنطن بخلقه وتدريبه وتسليحه بالتعاون مع السعودية وباكستان، واستخدمته في أفغانستان بهدف وقف التمدد الشيوعي في أسيا الوسطى، وجدت فيه بعد انتهاء الحرب الباردة الخادم الأمين في تنفيذ سياستها الهادفة إلى زعزعة استقرار روسيا الاتحادية والصين الشعبية، والعصا الغليظة التي ترفعها في وجه الأنظمة في الشرق الأوسط إن حاولت الخروج من بيت الطاعة الأمريكي.

خلال هذه الفترة كان أفراد هذا التنظيم الشبح وإخوانهم من المقاتلين الأفغان يُطلق عليهم (المقاتلين من أجل الحرية)، ليُصار يعد ذلك إلى تقديمهم كمعتدلين أو متشدّدين حسب توجّهات السياسة الأمريكية في المنطقة بعد انتهاء الحرب الباردة. وبعد حرب الخليج الأولى والطلاق البائن بين القاعدة وداعميها السابقين وإعلانها الحرب عليهم، تمّ تصنيف هذا الشبح وللمرة الأولى كإرهابي عالمي. مع ذلك وجد العقل الشيطاني لواشنطن الوسيلة لتنظيم خلافاته معه، فكان يقاتله في مكان ويستخدمه في مكان آخر بما يخدم مصالح الولايات المتحدة.

في هذه المدة، لم تلتفت واشنطن إلى معالجة جذور المشكلة التي أدت إلى ظهور هذا الشبح بما يحمله من فكر دموي، ولم تلتفت إلى الأصول التي استمد منها أفكاره التي أنتجت ممارسات لا تمت إلى الإنسانية بصلة، بل شرعت في مطاردة قياداته حول العالم وتصفيتهم بأسلوب عصابات المافيا غير مكترثة بالضحايا الذين سقطوا بسبب ذلك. الأمر الذي زاد من الحقد على سياسات واشنطن وأدخل في دائرة من تصنفهم (العدو) أفراداً ذاقوا منها الأمرّين (مرّ أدواتها) و(مرّ تصرفاتها).

معالجة هذه الظاهرة كانت من الأمور السهلة واليسيرة:

– الحلّ العادل للقضية الفلسطينية.

– الضغط على الدول الخليجية كي تُوقف تمويل هذا التنظيم وأخواته.

– تشجيع مراكز صنع القرار الديني في العالم الإسلامي على تطوير الفقه الديني بما يتناسب وتطورات الحياة.

– وضع الضوابط الشرعية على آليات إصدار الفتاوى الدينية التي أصبح بعضها مدار التندر حول العالم.

– تطوير تقنيات محاربة الفكر المتطرف في هذه البلاد.

– السماح لهذه الدول بانتهاج النمط السياسي والاقتصادي الذي يتناسب ووضعها الداخلي.

لكن كل ذلك كان يتعارض مع أهداف طفلة واشنطن المدللة في المنطقة والأهداف الاستراتيجية للبيت الأبيض حول العالم. فواشنطن، ومن خلال العمل على تحقيق أهدافها ومصالحها حول العالم، تُنكر وتتجاهل حقوق الشعوب وخياراتها.

ومع هبوب رياح (الربيع العربي) على المنطقة وتفجّر الأحداث في سورية، قامت واشنطن وحلفاؤها بفتح أبواب الجحيم على الشعب السوري عندما سهّلوا دخول التنظيمات الإرهابية كي تعيث فساداً وإجراماً في الأرض، بحجة دعم (الثورة السلمية) ضد الحكومة في دمشق. هذه العملية كانت نقلة نوعية في مشروع الشرق الأوسط الجديد، وعملية تصفية داخلية للخلايا النائمة للتنظيمات الجهادية في الولايات المتحدة وأوربا، وخطوة مسبقة لكشف إرهابيين مفترضين في مجتمعيهما. خلال ذلك، اعتمدت واشنطن أسلوب الإدارة من الخلف، فسمحت لحلفائها بقيادة العمليات على الأرض في خطوة لتخفيف النفقات الدفاعية للحكومة الأمريكية، وإجبار حلفائها على تحمّل مسؤوليات أمنهم المتزايدة.

اختلاف الأولويات بين الحلفاء الإقليميين والدوليين، دفعهم لخوض حروب دامية بواسطة دُماهم على امتداد المنطقة. الأمر الذي سهّل ظهور داعش، التي هي نتاج عمل أجهزة مخابرات إقليمية، وتمددها السريع في منطقة الهلال الخصيب، وتهديدها لدول تُعتبر ضمن منظومة الأمن القومي لواشنطن. مع ذلك، نرى أن واشنطن تعالج هذه الأزمة بأسلوب راقصي الفالس (خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف) فالتصريحات حول أسلوب وهدف محاربة داعش متضاربة، وآراء حلفائها متباينة بين من يُفضل التعاون مع الحكومة السورية ومن يُريد إقصاءها وأصدقاءها الدوليين عن الحلف المزمع تشكيله لمحاربة هذا التنظيم.

لكن هل واشنطن جادة فعلاً في محاربة هذا الإرهاب الأصولي في الشرق الأوسط والقضاء عليه؟ أم أنها تتعامل معه بأسلوب الراقص مع الذئاب. ذلك أنه حقق لها أهدافاً لم تكن تحلم بها، فهو قد دفع بالعنف الطائفي إلى حدّه الأقصى، وكان الوسيلة المثلى لدفع حلفائها وخصومها لإعادة رسم مخططاتهم الإقليمية، وجعل البيت الأبيض يشبه الملاك المنقذ لفئات كثيرة في الشرق الأوسط بعد أن تجاوزت تصرفات داعش وأخواتها حدود الأفعال الإنســـــــــــانية لتدخل في دائرة التصرفات الحيوانية.

المجتمع الدولي أصدر قراره بمكافحة (داعش) و(النصرة)، والأمريكيون يعلنون أنهم ماضون في حربهم ضد الإرهاب.. أما نحن فنقول: لا مصداقية حتى الآن في التحركات الأمريكية والأوربية.

العدد 1105 - 01/5/2024