في شعرية الإنصات

تكلم بنصف ما تعرف.. واعرف نصف الذي لم تقله، دعه ينمو كزهر خفي، كبوح شجي ليشي بفطرية الإحساس وطفولة الحواس، لتسترِدَّكَ الكلمة من عتمة كهفها، إلى طقس مهرجان أثير.

لا.. الكلمة خرساء، أو قرينة غياب.

الكلمة تنصت لمن يؤلّف سرديتها ويبثّها كجزيرة سحر وكون مسرّة، فهل رأيتها وهي تنصت؟ فلا تسرف في (شيفرة) أنوثة تأتيك بانفجارات وشيكة.

حقاً انصت لها، لتقف على براءة تكتمل بقراءتها  فرادتها. وهي من ذهبت لتغرس رمحها، أبعد مما تحتاجه رؤيا، لنراها مدناً ملونة، خفق قلوب استوى على شفاه ضاحكة ضاجة بفتنة الصمت.

مختزلة، كما سيرة فرح المعنى، موحية كما أخرجته في العنقود، وآخر قطرة من المطر، كيف تهبط على ظل الورق لغة نارنج، وكيف تنتثر أغنية تمشي في أثر خيول تسترد أشجاراً كبرت سريعاً، وهي من تقلبت على جمر كثافتها، كصبايا ذهبن لأعالي الحنين.

لا تمنح الكلمة ذاتها لسواها، هي المشغولة بتذويب حقولها ليصعد قمحها، ويتواضع عشبها، لتزنّر أرضها بالحب، وبقلب بصير تصدّقه المرايا.

أروع ما فيه التجلي: ورد على شرفات بيوت، وشرفات تتكئ على نوافذ حفظت ظلال وجوه عابرة.

نوافذ طليقة، بلا حديد يقتل لغتها، بل جناحا طير نسيهما في مصادفة عشق، ومزحة ريح، وانتباه سوسنة الوقت، وهي تعدو على أرض أحلام، تنحني كلما مر ظلها في ارتعاشة سوسنة النهار.

 هل رأيتها وهي تنصتُ لقلب امرأة زادها المدى اتساعاً ليرقص المعنى في مراياها، فلكَ أن تحدد، أو لا تحدد نسبة زنبقها إكسير الأقاح ودروب سفر بعيد.

بمَ تعدك الكلمة إذن يا وعدها كمعجزة نبيلة؟ لا تعدك هي بأسطورتها لأنها لم تزل هنا، هناك، وسوف تصدِّق النوافذ صمتها، إنصاتها، فرعشة منه تكفي لتعرفها اللغة.

 هل رأيتها وهي تنصت في مثل ليلة مرت خجلى ملتصقة بحياء لغتها، وهي تكسر العتمة بنجمتها، وهي تأخذ الأرض لخطاها لتعلمها أن تمتد أكثر، والشعر للأعلى لتعلمها أن السماء هي صحائف الرؤيا، والنهاية الكسيرة لتعلمها اختراع الحياة.

 هل رأيتها وهي تنصت لما ينبغي قوله؟ تنصت لإنصاتها فتشع سخرية الجهات من لا جدواها، وارتباك متخيلها، وابتكارها للضحك والنسيان، وهي ترمي ظلها سؤالاً كاشفاً لعتمة المعنى وجري السراب على تيه الأرصفة.

 هل قاسمتها قهوتها في الصباح الطازج الغناء، هي ترشف فنجانها على مهل عصفورة النار، فامتلئ بالذي يبقى مجنحاً متقد الظل أليف المزاج، واترك للسماء أن تبدل قميصها الأرضي، وللسرو التنزه في حدائق ظنونها، وللماء أن يعيد تشكيل أخضر وقتنا، وللجبال حرية التهيب في خيال اليمام.

 هل رأيتها وهي تنصت لمن أسرج روحه ساخراً من ثرثرة الأزمنة وزبد حكايات أصاب النسيان موضع الشعر فيها، وتأتأة سرد نسيته البداية؟

 هل رأيتها وهي تنصت لكَ؟ فأولم لها مأدبة صحوك، وسر في إثر نهارات سردها وما يدوّنه ضحكها الجواني.

 أجل لك وحدك، من تنصت لها كبرقية عاجلة، ليرتاح ما تدوّنه الحواس في برد التفاصيل وسلامها، هي تنصت لتكتبك صهيلاً لمواعيدها المؤجلة.

العدد 1107 - 22/5/2024