رحلت تاتشر ولم ترحل «التاتشرية»!

في السياسة: سوف يقترن اسم مارغريت تاتشر، الراحلة عن عالمنا قبل أيّام، بالحرب الظالمة التي شنّتها بريطانيا على الأرجنتين ورفعت بنتيجتها عَلَمها على جزر الـ (فوكلاند). مثلما سيظل الاسم مصاحباً لفترة مهّدت لإضعاف الاتحاد السوفييتي ثمّ تفكّكه، بعد مدّة من زرع  فتيل صاعق اسمه (غورباتشوف) انطلاقاً من العاصمة البريطانية لندن. أمّا في الاقتصاد: فسوف يقترن اسم تاتشر بالتقلص  والتراجع المُريب لدور القطاع العام في مجالات عديدة من الاقتصاد البريطاني، خاصة تلك التي مثلت المشهد الصناعي. إذ بدت سياسة الخصخصة، (التي شملت شركة رولز رويس والخطوط الجوية البريطانية، وشركة الغاز البريطانية وغيرها)، جوهر الاقتصاد التاتشري، وهي سياسة لم تكن واردة قبل مجيء تاتشر للحكم. والغريب أنّ تمتدّ تأثيرات الحماسة التاتشيرية إلى حزب العمال، وهكذا لم تجد سياسة إعادة التأميم بعد ذلك طريقها إلى أجندة هذا الحزب، وهو الذي كان يتغنى بها على الدوام.

فهل يعني ذلك أنّ الاقتصاد البريطاني مستمّر على نقل بصمة مارغريت تاتشر لكلّ خلفائها منذ عشرين عاماً حتى الآن، ( العماليين منهم والمحافظين )، وبضمنهم رئيس الوزراء الحالي المحافظ ديفيد كاميرون، الذي تواجه سياسته الاقتصادية المتّسمة بخطة تقشف صارمة، تساؤلات كثيرة في مجلس العموم وفي وسائل الإعلام حول ما إذا كان لهذه السياسة نفس التأثيرات الجذرية لخطة مارغريت تاتشر؟ علماً بأنّ سلفه العمالي توني بلير، الذي امتدت مدّة رئاسته للحكومة البريطانية من 1997 إلى 2007 لم يخرج أيضاً عن السياق ذاته، واُعتبر من ورثة المرأة الحديدية بسبب اتباعه التوجهات الكبرى لما سمّي الثورة المحافظة، مثل إزالة الإطار التنظيمي للخدمات المالية واستمرار خصخصة القطاع العام.

نأتي الآن إلى لقب مارغريت تاتشر الذي اتفق عليه أنصارها وأعداؤها على حدّ سواء، حين كان للرئيس رونالد ريغان (الذي ارتبطت حقبته مع حقبتها بقواسم مشتركة كثيرة) رأيٌ آخر، عبّر عنه أثناء رقصة التانغو معها، في إحدى أطرف الرسوم الكاريكاتورية من ذلك العصر، بقوله: (ستبقين يا مارغريت أفضل رجل في أوربا)، نأتي لنقول: حتى الحديد قابلٌ للصهر والطرق، وهذا ما حدث(للحديدية تاتشر)عندما تقدمت باستقالتها بعد أن جوبهت بشجب شعبي واسع يتهمها بأنها لم تفعل شيئاً سوى جعل الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقراً..!

وإذا كان لابدّ من ذكر حسنات الموتى؛ فيُحسب للمرأة الحديدية (ابنة البقّال، التي زاوجت في دراستها ما بين القانون والكيمياء)، العمل الدؤوب لترويض التضخم. إذ عمدت إلى اتخاذ سياسات قاسية خاصة بالميزانية، كان الهدف منها السيطرة على الإنفاق العام، على الرغم ممّا رافق ذلك من شدّ الأحزمة على البطون، ومن محاولات ثني البريطانيين عن المطالبة بزيادة الأجور. لقد نجحت خططها لفترة، بعد ذلك تضاعفت الأسعار بسرعة كبيرة في أوائل عقد الثمانينيات فكان من الضروري الموافقة على سياسات نقدية منضبطة. ومع رحيل المرأة الحديدية، يبدو المجتمع البريطاني أقرب إلى التاتشرية مما كان عندما كانت في الحكم، إذ تتبارى الصحافة حالياً في انتقاد سخاء المساعدات الاجتماعية. فقد  كتبت مؤخراً (الديلي تلغراف) القريبة من المحافظين: (لقد أصبحنا جميعاً أبناء تاتشر). كما رأت الغارديان أنّ (بريطانيا أكثر تاتشرية مما كانت عليه في الثمانينيات). ولعلّ هذا ما يفسر لماذا لم تُثر الاقتطاعات المالية التي قررها الائتلاف الحاكم بزعامة المحافظين، حتى الآن على الاقل، الثورة الشعبية التي تثيرها في كل مكان في أوربا.

أخيراً وليس آخراً، إنّ أهم ما يميّز حقبة وظاهرة تاتشر هو شراكتها وانضمامها   إلى ظاهرة الريغانيـة (نسبة إلى الرئيس الأمريـــكي الراحـــل رونالد ريجان)، فقد أسّسا تحالفاً ثنائياً راسخاً على ضفتي الأطلسي، هو الأقوى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأدّى إلى قيادة بريطانيا والولايات المتحدة في اتجاهات جديدة. وعلى الرغم من اختلافهما في أسلوب الحكم إلا أنهما تقاسما الرؤية ذاتها، وإن كانت تاتشر هي الأكثر إثارةً للجدل بعزيمتها الحديدية فضلاً عن تناقضاتها الظاهرة. لقد شكل الاثنان صرحاً منيعاً من صروح الـ (نيوليبرالية الجديدة واقتصاد السوق) المُغرق حتى أذنيه في حرية لا تعني شيئاً سوى فلتان قوى السوق وخروجها من عقالها، لتتعدّى على حقوق الشعوب والدول.. وما يعانيه الاقتصادان البريطاني والأمريكي والاقتصاد الأوربي بل والاقتصاد العالمي بأكمله من مشكلات مستعصية، يعود في جزء كبير منه إلى إرث وتركة الـ (نيوليبرالية المتوحشة) التي كان للراحلة قبل أيام دورٌ فاقع في تكوينها وهرطقاتها!..

العدد 1105 - 01/5/2024