متاهات

في دمشق الشوارع مزدحمة إلى درجة الاختناق، البسطات تحتل أرصفة الفيحاء في كل المناطق، الأسواق ممتلئة بالزبن، رغم الغلاء الفاحش ورغم الأحداث، كل ما يخطر ببالك من مواد غذائية وملبوسات وكماليات  موجود. الشوارع  والطرقات والأزقة مكتظة، زعيق سيارات لا يهدأ وأصوات الباعة تصل إلى مداها الأقصى وتنخر الآذان. حركة لا تتوقف ولا تخف حدّتها إلا بعد الغروب، دمشق تزهو بأريج ياسمينها ولا تستسلم للنائبات والمصائب. 

في المدن والأحياء التي تحيط بالعاصمة ترى الوجوم يلف الوجوه التي لا تلوي على شيء سوى الوصول إلى بيوتها بأمان. لا أحلام ولا أماني ولا مشاريع صغيرة أو كبيرة، لهاث خلف ربطة الخبز وجرّة الغاز، النقود نفدت. الخضار والبقوليات أصبحت أسعارها خيالية، حليب الصغار مفقود، ولا ألعاب أو متنزهات. رائحة الدخان تطغى، ولا صوت يعلو على أزيز الرصاص وهدير المدافع. مكاسب ضخمة حققها اللصوص وتجار الظروف الطارئة. لا تفاجأ إذا رأيت (عفش) بيتك معروضاً للبيع في حي آخر أو حارة قريبة، معمل بيجامات شهير نهب، وتباع بضاعته على أرصفة اليرموك والحجر، وتباع البيجامة بمئتي ليرة، بينما سعرها الحقيقي يفوق الألفي ليرة، وقد اضطر صاحب المعمل تلبية لطلب الزبن لشراء ا لبضاعة المسروقة.

 تقودنا الحياة من متاهة إلى أخرى، نتوه ولا نرى سوى ما يقف عثرة في طريقنا، وعندما تكون في حياتنا لحظات سعادة ننساها أو نتناساها، لأننا لا نعرف قيمتها إلا عندما تلهبنا سياط الحزن أو الألم. ننقاد من مكان إلى آخر، نمضي ولا نعرف إلى أين، لم نعد ندري أين تقودنا أفكارنا وأقدامنا! فالأحداث تزجنا في متاهة تلعب بنا كيفما تشاء، ونستسلم لها برضا تام، بل نتوق إلى التوهان والضياع حتّى ننسى واقعنا ولو قليلاً. نحاول أن نعثر على أي شيء يعيد إلينا بعض الأمان كي نسلمه أنفسنا التعبة المنهكة والوجلة.

في المساء، نتابع الأخبار عندما ننعم بالكهرباء، ونحن الذين كنّا لا نرى الظلام في بيوتنا إلا نادراً، تطل علينا المذيعة الجميلة المغرورة من الفضائية  الخليجية المشهورة والتي تدفع لها بسخاء وبالدولار، وقد بذل المزيّن (الكوافير) جهداً كبيراً في وضع لمساته السحرية التي تعلمها في كلية التجميل بباريس. وما ابتكره على وجهها وشعرها حتّى تطل علينا بابتسامتها المصطنعة وقد سطع وجهها تحت أشعة الأنوار المسلطة عليها وكأنها عروس في ليلة زفافها أو نجمة في حفلة لاختيار أجمل (مكياج). لكن ما يفاجئك أن هذه المذيعة تتحول إلى محققة وقحة أو ناطقة باسم التكفيريين، على الرغم من أن شرف المهنة  يقتضي منها قول الحقيقة. ونتابع تقليب القنوات ولا نسمع أو نرى إلا  أخبار القتل والفتنة والفبركة فيمتعض القلب فنبدّل الفضائية ولم نعد نتحمّل، أصبحنا نتوق إلى خبر يبعث الأمل فينا ويجدده، خبر ينعش قلوبنا ويزرع البسمة على ثغورنا، ويريح نفوسنا ويبلسم نزف قلوبنا.

العدد 1105 - 01/5/2024