النسوية العربية… رؤية نقدية، نظرية ما بعد البنيوية والنسوية في الشرق الأوسط… هل ندور في حلقات؟

 نتابع المحور الرابع والأخير من الملف الذي نشرته (مجلة المستقبل العربي) في عددها الأخير.

أولاً- الخلفية: المعرفة والشرق الأوسط

يتناول هذا البحث النتائج المقصودة وغير المقصودة التي حملها الفكر ما بعد البنيوي(وبالأخص فكر ميشال فوكو) إلى الدراسات النسوية في الشرق الأوسط، وبالتحديد فيما يتعلّق بالنزعة المتجددة نحو الحجاب. وهي تهدف إلى تفسير عملية تحوّل الخطاب القديم للنساء المسلمات، الذي كان يُندد بالقمع إلى خطاب يستند إلى تشويه في المفهومين التوءمين (المقاومة) و(التمكين). وقد جاء عاملان فاعلان في اتجاهين مختلفين ليدفعا دراسة المجتمعات الشرق أوسطية إلى خارج الغيتو الفكري الخاص بها، وهما: نشر كتاب إدوارد سعيد (الاستشراق)، ومأسسة برامج الدراسات النسوية.

وكانت الادعاءات الشمولية التي اتسمت بها النظريات النسوية حول الجنسانية، قد احتاجت إلى المُصادقة، من خلال دراسة النسوة في المجتمعات غير الغربية، وبالأخص نسوة الشرق الأوسط المسلم، حيث مثّل الدين تحدّياً للنسويين.

قدّم كتاب إدوارد سعيد مفهوماً هو الاستشراق، ونقداً صِيْغَ بمصطلحات معادية للإمبراطورية لا يمكن تجاهلها ساعدت جيلاً من الباحثين الشبّان على نقد فرضياتها وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية. كما أنّ إدراك سقطات النظرية المعرفية الاستشراقية دفع الباحثين الشباب إلى استكشاف أنظمة نظرية سائدة، كالنظرية النقدية التي صاغها(هابرماس)، والفكر ما بعد البنيوي كما صاغه ميشال فوكو.

والغريب أنه بينما كان هذا البحث قائماً في المجالات المُكرّسة، قامت النسوية الأكاديمية، في مرحلة أولى، بالتطرّق إلى النسوية في الشرق الأوسط كتجسيد لنوعين من مواطن الضعف، هما: نقص القوة والقمع المباشر الذي عُدّ من صفات الدين الإسلامي. سار الاتجاهان كلٌّ في طريقه لفترة من الزمن، حتى نهاية الحرب الباردة، حيث دخلنا في حقبة تسارع وتيرة التبادل الثقافي مع الشرق الأوسط، وبرزت باحثات محليّات أردن بشدّة استكشاف المفاهيم والنظريات، كنظرية ما بعد البنيوية التي بدأت تشقُّ طريقها في الدراسات النسوية. وهكذا، كان انتشار النظرية ما بعد البنيوية في دراسة المجتمعات الشرق أوسطية طريقةً لتغطية أو لتشريع النقد المتزايد للحكومات القائمة، كما استُخدم لاستكشاف أحداث تاريخية ماضية بوصفها تُمثّل صراعات متعددة للتوجّه إلى السلطة.

أمّا فيما يتعلّق بالدراسات النسوية في الشرق الأوسط، فقد كان الاستعمال التدريجي لمفهوم السلطة ما بعد البنيوية يُرافقه نقاش بسيط حول النظرية المعرفية التي تقف وراءه. لذا فمن المهم أن ندرس ما كتبه فوكو حول التاريخ والسلطة قبل أن نتمكّن من معرفة ما إذا كان قد حلّ قطع مع المفاهيم النسوية السابقة.

ثانياً- حول التاريخ والنية والذات عند فوكو

تجدر الإشارة بالنسبة إلى نظام فوكو النظري، عدم قابليته على اختزال التفسير الأنثربولوجي أو الاجتماعي لبعض المسائل. إنه النظام الذي نجده في تصنيفات الطبيعة ومفاهيم البشر الذين ينتمون إلى ثقافات مختلفة.

ويُجادل فوكو في كتابه (أركيولوجيا المعرفة) بالقول: إنه منذ بداية القرن الثامن عشر أصبح الإنسان موضوع المعرفة وما يُشكّلها. وكلّما زاد المسعى، وتراكمت المعرفة حول الإنسان، تضاءل حجمه ككائن مستقل، وقلّت مقدرته على الهرب من المفاهيم التي علق فيها كما يعلق المرء في شبكة شديدة التعقيد. في موازاة هذا، جادل فوكو كذلك بالقول إن الاختلاف والآخرية (تُنتَجُ) ضمن آلية لا يُطلقها شخص واحد، بما أنها مُتجذّرة ثقافياً، ويحمل نقد فوكو لشوائب الفلسفة العقلانية أهمية دراسة النسوة، ذلك أنه يُقدّم نقداً معرفياً يطول تجاهل أو استبعاد دور النسوة في تنظيرات العلوم الاجتماعية قبل صعود النسوية الأكاديمية، كما أنه يُلقي الضوء على مفهوم فوكو الخاص بالسلطة أو التمكين.

يوضح فوكو منهجيته التي يُسميها بالمنهجية (التاريخية- النقدية)، مشيراً إلى ثلاثة عوامل أساسية هي:

1- وعي الحدود المعاصرة لما هو ضروري.

2- النقد الدائم لذواتنا.

3- أشكال العقلانية التي تنظم الأفراد مع الحرية التي يتصرفون بها.

ليس ما تقدمنا به هو محاججة للدفاع عن الانعزالية النظرية في الدراسات حول مجتمعات الشرق الأوسط، بل هو دعوة إلى التفكير في تحوّل التفسير النظري إلى تبرير. وهو استكشاف الآلية التي تنقلب بواسطتها دراسة المسائل المركزية، بالنسبة إلى تاريخ النساء المسلمات في الشرق الأوسط ودورهنّ في المجتمع، إلى دراسة تمجيد العارض والحفاظ على الوضع القائم. بكلمات أخرى، إنه تفكير في الآلية التي يتخلى فيها علم اجتماعي (كما تُمثله ممارسات أكاديمية نسوية طاغية) عن وظيفته المُزيلة للأوهام، ليُصبح خطاباً دفاعياً عن أسبابٍ تخرجُ عن الموضوع الخاضع للدراسة. وتُعتبر دراسة عودة الحجاب التي اجتاحت المجتمعات الإسلامية في العشرينتين الماضيتين قضية في صميم الموضوع.

ثالثاً: معرفة عودة الحجاب أو تبريرها

في مرحلة أولى، وعند بداية موجة النسوية الثانية في الولايات المتحدة، كان الخطاب حول الحجاب يقدّم القمع على ما عداه لتفسير وضعية النساء المسلمات. وكانت بعض نساء الشرق الأوسط يعتنقن هذا التفسير بطريقة أو بأخرى. وفي مرحلة ثانية بدأت في حدود التسعينيات من القرن العشرين أخذ الباحثون يقلّبون هذا الاتجاه لتبرز مقاربات أساسية ثلاث:

1- تحليل طبقي يُقدّم الحجاب أداة تستخدمها المرأة الفقيرة أو المنتمية إلى الطبقة العاملة في العمل خارج المنزل من دون أن تتعرّض إلى غضب زوجها، أو للقضاء على الشائعات التي قد تطولها في مجتمعها.

2- حكاية الحجاب التي تُشكّل مؤشّراً على فشل السياسات (التحديثية) التي اتبعتها بعض الدول الشرق أوسطية غداة قيام الحركات المعادية للاستعمار. ومن هذا المنظار انقلبت النساء إلى الحجاب كمؤشّر اعتراض من جانبهنّ، وكان الاعتراض على الأرجح أيضاً سبباً لاعتناق الحجاب كوسيلة تؤمّن المرأة بواسطتها الشرعية، حينما ترغب في تحدي تفسيرات الشريعة. وبالتالي يُفسّرُ وضع الحجاب كممارسة للقوة الأنثوية، سواء أكان على شكل مقاومة أم تمكيناً.

3- أمّا التنويعات حول هاتين المقاربتين، فهي تحوّل الحجاب إلى مجرد رداء ثقافي الشكل، أو نوع من زيّ أو فرض ديني على المرأة، كما لو أنه فرضٌ سادس يُضاف إلى الفروض الخمس. وتجدر الملاحظة أن الخطاب الأكاديمي حول عودة الحجاب يقوي ويعكس إلى درجة كبيرة المفهوم الذي تُدافع عنه الحركات الدينية في هذه المسألة على سبيل المثال، سرعان ما ترفض هذه الدراسات بحجة (تغريب) النساء اللواتي يرين في عودة الحجاب نزعة تضع النسوة مجدداً ضمن منوال قديم يرتكز على عدم المساواة بين الجنسين، ولا يُشكّل بالتالي قطيعة مع الماضي. يدلُّ هذا الرفض التأويلي على نوعين من التحيّز:

– التحيّز الأول: أن الباحثة (حينما تكون غير مسلمة) تدّعي الموضوعية المهنية حين تُشير إلى أن ناقدة الحجاب (مغرّبة) وليست امرأة (غربية) أصلية، وبالتالي، بعد أن كان الحجاب في السابق مُداناً من جانب النسوة الأكاديميات بوصفه علامة على القمع، ها قد أُعيد اعتباره على حساب المرأة الناقدة المحلية التي رُسِمت لها صورة تبدو فيها منحرفة بشكل مقصود بسبب انتمائها الاجتماعي الطبقي الذي يُنبِئ بتغرّبها المفترض. وهكذا نكون أمام المرأة المسلمة الصالحة التي (تُمكّن) نفسها بواسطة الحجاب، تُقابلها المرأة المسلمة التي تحتجُّ على الحجاب، فتسقطُ إلى مرتبة (الغرب) غير الأصيل، والمتحامل الذي تفشل في مقاومته ضمناً.

– التحيّز الثاني: يكشف الباحثون عن دوغمائية لا تاريخية حينما يدّعون ضمناً أن الحجاب شرط من شروط الانتماء إلى الإسلام، وأن ما من امرأة يُمكنها أن تتطلّع إلى الاختلاف الذي تمّت المطالبة به. بكلمات أخرى، إن الانعتاق من الحجاب هو امتياز تستطيع بعض النساء فقط الحصول عليه لأنهنّ ولدن في الغرب. وقد حُمّل الحجاب معيارياً بعدد من الوظائف التي لم تخضع للتمحيص بما فيها الحفاظ على الحشمة، والحماية من التحرّش الجنسي، وتوكيد الهوية الثقافية، وتقوى المرأة معها.

ماعساه يكون تحليل عودة الحجاب على طريقة فوكو؟

أ- يتعرّف أولاً بأول، على الشكل التاريخي الذي ظهر فيه الحجاب وترسّخ، وسيميّز أربع مراحل: مرحلة ما قبل الاستعمار بالمعنى الواسع، ومرحلة الاستعمار، ومرحلة ما بعد الاستقلال، والمرحلة الراهنة. وسيُساعد هذا التقسيم على تحديد صعود الحجاب وسقوطه كموضوع تقصٍّ تاريخي.

ب- يحدد ثانياً اللغة(الدينية، القانونية، السياسية، والثقافية) التي جرى الحديث فيها عن الحجاب في مختلف المراحل التاريخية، كما سيرسم اختلافاته عن حقبة الشرع الإسلامي الكلاسيكية وتشابهاته معها. ويختلف الحجاب كخطاب عن الحجاب كتاريخ من حيث التحليل، علماً أنه لا يمكن فصله عنه.

ت- يرسم ثالثاً الاضطرابات والتعديلات والتصحيحات( المادية، والاجتماعية، والسياسية، والقانونية) التي حصلت نتيجة الحميمية التي فرضها الغرب الإمبراطوري. ويُشكّل اللقاء مع النسوية الغربية نقطة اهتمام خاصة. وفي إطار الوضع التاريخي الحالي نتج عنه تقديم النساء في الشرق الأوسط كمخلّصات بالوكالة للنساء في المجتمعات الغربية، بسبب ما رُئي أنه خطاياهنّ الجسدية. وجرى الترحيب بالحجاب بوصفه دواء ضدّ التشيؤ الجنسي الذي تخضع له المرأة في الغرب، واسترجاع الأخلاق الجنسية الجوهرية أي (الاحتشام). وفي الوقت ذاته، يجري حثُّ النساء الشابّات على الشكّ في فلسفة التحرر النسوي، انطلاقاً من أنهنّ حرّات أساساً، ويملكن كل الحقوق التي يمكن أن يأملْن بالحصول عليها، نظراً لاختلافهنّ البيولوجي عن الرجال. ثمّة دائرية في تبرير الحجاب، فالنساء المسلمات يلبسنهُ، والنساء اللواتي يرغبن في التعريف بأنفسهن على أنهنّ مسلمات يجب أن يلبسن الحجاب، وما من بديل للمرأة المسلمة عن الحجاب.

ث- العنصر الرابع في تحليل عودة الحجاب على طريقة فوكو، سيكون كشف مختلف الطرائق التي يُشكّل بواسطتها خطاب الحجاب النساء كذوات في مختلف الحقب والظروف التي تجعل طرائق كهذه غير فاعلة. وفي موازاة هذا الأمر، يتطرّق هذا المنظار إلى مختلف السبل التي أدى فيها إدراك النسوة خطاب الحجاب، بوصفه خطاب سلطة، أتى لمصلحتهنّ، فغداة الصراع  للقضاء على الاستعمار، كفَّ جيل من النساء عن التفكير في الحجاب بوصفه محدداً لهويتهنّ الإسلامية أو النسوية. وفي الإطار التاريخي الراهن، جرى حذف إنجاز هؤلاء النسوة لمصلحة وجهة نظر تستعرض بفخر تاريخاً متماسكاً للحجاب كشرط لهوية المرأة المسلمة.

ج- العنصر الخامس والأخير، هو كشف الطبيعة الثنائية في خطاب الحجاب بوصفه مكوّناً لذكورة الرجل: كيف يمكن للتغيُّر في خطاب الحجاب أن يؤثّر في هوية الرجل؟ ما هي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يجد فيها الرجال(والشبّان على الأخص) أن غياب الحجاب يُنتج حالة ضعف أمام الجنس بالنسبة إليهم؟ كيف يمكن لهؤلاء الرجال الاستفادة من اتساع التعبير المتوفّر عالمياً في وسائل الإعلام، حول هوية ألطف وأكثر أنثوية، بينما يتشددون على ذكورة أكثر صرامة في التعريف حينما يطلبون من زوجاتهم أو نسائهم أن يضعن الحجاب.

وأخيراً، لقد بيَّنتُ ضرورة التحلي بوعي نقدي إزاء التفسيرات السهلة التي تُصالح ما بين النساء وممارسات وأحداث محددة لهنّ عند اعتبار أن الأمر العارض هو أمر ضروري لا مفرَّ منه. وبكلمات فوكو نفسه نقول:

(ليست أنطولوجيا الذات النقدية نظرية أو عقيدة، أو جسماً معرفياً دائماً، بل يجب أن يُنظر إليها على أنها منظومة قيم متأصّلة، وحياة فلسفية يكون فيها نقد ما نحن عليه تحليلاً تاريخياً للحدود المفروضة علينا، واختباراً لإمكان تخطّيها في الوقت ذاته).

العدد 1104 - 24/4/2024