دون ابتلاع… ودون هيمنة الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص

لاتبدو في الأفق إشارات واضحة تدلل على نهاية قريبة للأزمة العاصفة التي باتت تهدد حياة جميع السوريين، وتكاد تودي بكل ما أنجزته أيديهم وعقولهم خلال عقود وعقود. فإضافة إلى الدماء التي تنزف كل يوم، تزداد المصاعب المعيشية التي تواجه جماهير الشعب السوري، وشيئاً فشيئاً يصبح تأمين القوت اليومي للفئات الفقيرة والمتوسطة صعب المنال، بعد تراجع الأجور الحقيقية، وارتفاع عدد المتعطلين عن العمل، في ظل الحصار الاقتصادي الظالم الذي تحرص قوى التحالف المعادي لسورية وشعبها على استمراره.. وتضييقه أكثر فأكثر، وبعد استغلال أثرياء الحروب والمحتكرين وتجار الأسواق السوداء لظروف البلاد الصعبة، مما أدى إلى فقدان العديد من السلع الضرورية، وارتفاع أسعار المتوفر منها بنسب قياسية لم تشهدها بلادنا، كذلك تتصاعد عمليات التدمير المقصود للمنشآت العامة والقطاعات المنتجة وممتلكات المواطنين، وتغدو عمليات الإنتاج أكثر صعوبة حتى في المناطق الأكثر أمناً، بسبب صعوبة تأمين مستلزمات الإنتاج، وتعثُّر نقل السلع بين منطقة وأخرى.ورغم التدخل الحكومي المكثف في الآونة الأخيرة لمعالجة الأوضاع المعيشية الصعبة التي تقاسيها الفئات الفقيرة والمتوسطة، فإن تنوع المشكلات وحدتها، وتقلص الإيرادات العامة، وتراجع سعر الليرة، يجعل تأثير هذا التدخل محدوداً.

وبالتوازي مع الجهود التي تبذل في الداخل والخارج لإيجاد تسوية سياسية للأزمة، تأخذ بالحسبان خيارات الشعب في بناء دولته الديمقراطية التي تتسع لجميع مكوناته الإثنية والدينية والاجتماعية، وتواجه ما تعده الإمبريالية الأمريكية والصهيونية وشركاؤهما لمنطقتنا.يجري الإعداد في الداخل والخارج لتصورات..وسيناريوهات لإعادة إعمار ما هدمته هذه الأزمة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، والبدء بعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة.

ونظراً لارتفاع حجم الخسائر التي منيت بها القطاعات والمنشآت الحكومية المختلفة، والتي تجاوزت حتى الآن نحو 100 مليار دولار، والتكاليف المرتفعة لتحقيق عملية التنمية المتوازنة، لابد حسب اعتقادنا من تهيئة الأساس التشريعي والقانوني لتأسيس شراكة فاعلة بين الدولة والرساميل الوطنية في الداخل والمغترب والقطاع الخاص المنتج لتحقيق النجاح في هذين الاستحقاقين، بالاستناد إلى خطط حكومية نوعية.. قطاعية تأخذ بالحسبان إعادة الإعمار أولاً، وتهيئة البنية التحتية اللازمة لعودة قطاعات الإنتاج الصناعي والزراعي والحرفي والسياحي، ثم الانطلاق في عملية التنمية.

الشراكة بين الدولة والقطاع الخاص هي شكل من أشكال التعددية الاقتصادية، وتجسد في المرحلة الراهنة مسوؤلية جميع أشكال الملكية في بناء مستقبل سورية الاقتصادي والاجتماعي وفق الخطط الحكومية المركزية. فالحكومة هنا تؤدي الدور الأساسي، ولايجوز تفويض هذا الدور للقطاع الخاص الذي يسعى دوماً إلى الربح، بل الاستفادة من القدرات المالية لهذا القطاع في تنفيذ الخطط التنموية الحكومية بالاستناد إلى شراكة فاعلة تضمن للحكومة تنفيذ خططها، واستمرار سيادتها كممثل للشعب على القطاع العام والمرافق الحيوية. وتضمن للقطاع الخاص عائداً مقبولاً لاستثماراته.

وسبق أن طالبنا مراراً قبل انفجار الأزمة باعتماد هذه الشراكة مبدأً رئيسياً في تلبية حاجات التنمية، كما أكدنا أهمية مشاركة الرأسمال الوطني في عملية التنمية اقتصادية واجتماعية عن طريق تجديد هياكل البنى الاقتصادية الرئيسية كالزراعة والصناعة وإنشاء وتأهيل البنية التحتية اللازمة للقطاعات الإنتاجية، وإنشاء وتجديد مستلزمات التنمية الاجتماعية كالمدارس والجامعات ومراكز التأهيل المهني، وخاصة في المناطق المظلومة كمحافظات المنطقة الشرقية، وذلك وفق صيغة تضمن عائداً مقبولاً للرأسمال الخاص الموظف، وتتيح للحكومة تنفيذ خططها التنموية. لكن بعض مهندسي الاقتصاد السوري آنذاك، اختصروا مبدأ المشاركة بين القطاع العام والخاص بمنح مشاريع البنية التحتية والمرافق الاستراتيجية للقطاع الخاص الوطني والأجنبي بهدف استثمارها وفق أسلوب B.O.T، أي البناء والتشغيل لمدة يتفق عليها مع الحكومة، ثم إعادة هذه المرافق (بعد عمر طويل) إلى الدولة. أي بكلمة أخرى انسحاب الحكومة من العملية الاقتصادية برمتها، وتسليم مفاتيح الاقتصاد الوطني والمرافق الاستراتيجية للقطاع الخاص.

لقد تبين بجلاء خلال العقد الماضي أن ملكية الدولة، وإدارتها للقطاع العام الاقتصادي والمرافق الحيوية، كالكهرباء والمياه والموانئ والمطارات والطرق، كانت محط أنظار بعض مهندسي الاقتصاد السوري الذين يعتقدون أن هذه الملكية وتلك الإدارة تقف عائقاً أمام سيادة السوق.. وقوانين السوق، وشاركهم في ذلك فئات من المستثمِرين المحليين والأجانب الذين رأوا في قطاع الدولة هذا حلماً للوصول إلى الجمهور الأوسع.. والربح الأعلى.. والسيطرة المطلقة!

وفي المقابل فقد بات ضرورياً نزع عقلية الهيمنة والتسلط التي سادت لدى العديد من المسؤولين السياسيين والاقتصاديين، فالشراكة مع القطاع الخاص هي شراكة مع أبناء الوطن، والهدف منها تنفيذ المشاريع التي تخدم الوطن وأبنائه، فلا يجوز هنا التعامل مع الرساميل الوطنية بعقلية الهيمنة والاقتناص.. ووضع المصاعب والعقبات.. والتخوين في بعض الأحيان، وهذا ما يتطلب البحث عن فريق اقتصادي وطني مجرب، يتولى تنفيذ خطط المشاركة بين الدولة والقطاع الخاص.

وحسب اعتقادنا، فإن المشاريع التالية هي المناسبة لشراكة الدولة مع الرساميل الوطنية والقطاع الخاص، في إطار خطط التنمية الاقتصادية الحكومية:

1 إنشاء وتأهيل البنية التحتية من طرق وصرف صحي، ومدن صناعية، وتشييد المدارس والجامعات والمشاريع المائية والصناعات الحديثة والمتطورة، وخاصة تلك التي تعتمد على منتجات الزراعة في المنطقة الشرقية.

2 – المساهمة في تنفيذ مشاريع الإسكان لتلبية حاجة البلاد من دور السكن.

3 – المساهمة في إنشاء منظومة متطورة للنقل وتجديدها، وبخاصة النقل السككي والبحري.

4 – تحديث المرافق العامة كمشاريع مياه الشرب والكهرباء والاتصالات وتطويرها، على أن تبقى ملكيتها وإدارتها بيد الدولة.

على أن تتولى الدولة تقديم الخدمة النهائية للمواطن بعد تنفيذ هذه المشاريع، فهي المفوضة بذلك باعتبارها صاحبة جميع المشاريع نيابة عن الشعب من جهة، وقادرة على وضع السعر السوقي أو الإداري الذي يناسب القدرة الشرائية للمواطنين السوريين.

العدد 1107 - 22/5/2024