نوبة وطن

حين راح اللون الأحمر يطغى على طيف الأخبار الواردة من الوطن.. اجتاحه طوفان انفعالات لطالما ظن أنه قد تحرر أو كاد من وطأة سطوتها منذ أمد بعيد. مزيج مكثف من مشاعر ألم وحزن وخوف ولهفة وغيرها مما يفوق الوصف من أحاسيس تمخضت جميعها عن إعصار مدمر أطاح بثمرة جهود حثيثة مضنية بذلها على مدار أكثر من عشرين عاماً في محاولة ترويض تلك النداءات الخفية التي ما انفكت تصدح في أعماقه من حين إلى آخر، متحدية عهده الذي قطعه على نفسه يوم وأد ذكرياته على رصيف ميناء مقفر وامتطى صهوة المركب مولياً ظهره للشمس والوطن والحب.

 بإيثار فائض عن روح الفنان المضطرمة في داخله، حزم ريشته وألوانه ومضى مختاراً النفي الطوعي سبيلا  لفصم عرى ارتباط عبثي ولد في لحظة ضعف وتسلل إلى ثنايا جوارحه في غفلة عن الوعي فسرى فيها ببطء كنسغ الأشجار، حتى إذا أينع كاد أن يتمخض عن جريمة أوشك أن يرتكبها بحق روح  محبوبة بريئة كالملاك، تأبى الإقرار بالواقع وبهول الهوة التي تحول بينهما.. لتبكي ما شاء لها البكاء، ولتقذفه بما شاءت من نعوت الخيانة والغدر والنكران.. فعاجلا  أم آجلا  سينجلي عن عينيها الحجاب، وستعي حينذاك حجم التضحية التي بذلها في سبيل منحها فرصتها في أن تحيا ككل الناس.

لم يتوهم يوماً سهولة محو تلك السطور المحفورة عميقاً في رقيمات ذاكرته وقلبه كأن لم تكن، والظفر مجدداً بصفحات بيضاء عذراء ليدون عليها قصصاً جديدة تنسيه مرارة الألم ولوعة الخيبة. ولكنه كان يعول على مواساة حليف قديم العهد في تضميد جراح الخائبين أمثاله اسمه النسيان. فانصرف إلى تمتين أواصر تحالفه معه مستعيناً بموهبته الفطرية الفذة في العناد والمكابرة في مواجهة هبات الشوق والحنين الحارَّة، مستمداً من سحر بلاد الأمازون زاداً استعان به على رتق مزق روحه وترميم صدوعها، بهرته بطبيعتها العذراء ومشاهدها الغرائبية الخلابة فراح ينهل من رونق ألوانها ليسكبها لوحات فريدة تكاد تنطق بأساطير تلك المجاهل الموحشة العذراء وتروي تاريخها التليد، فكافأته بجناحي نسرها الذهبي الأسطوري ليحلق بهما إلى سماء المجد.

على ذروة من ذرا النجاح و الشهرة كان يثمل حين دهمته أمواج الفجيعة التي ألمت بالوطن المنسي البعيد، مضمخة برائحة كريهة حملتها رياح جاهلية المنشأ والمآل. صيحات بربرية مقيتة تصدح عبر الأثير، صور موت ودم ودمار تلتهم ربوعاً كانت حتى الأمس القريب موئلا  للحياة والحب والوئام.

وانفجرت تلك النداءات الخفية التي خبت طويلا  حتى خالها خمدت، ساخطة على محاولات قمعها، برمة بعناده ومكابرته، ضاقت الدنيا به بما رحبت، واكفهرت الآفاق في عينيه وانقلبت الغربة التي كادت بالأمس تغدو وطناً جحيماً لا يطاق وعذاباً لا يحتمل.. أي وطن هذا الذي يأبى الانصياع لقوانين الكون و نواميس الطبيعة والحياة فينبعث من قمقم الماضي مارداً جباراً يهزأ برهانه على النسيان والسلوى ويوسوس له إعادة وصل ما أمعن فيه تقطيعاً وتقضيباً على مدار عقدين من الزمن ؟ كيف السبيل إلى مقاومة جاذبية ذلك الوهج المنبعث من الماضي مهدداً بنكء جرح اندمل على القذى ؟ لا.. لن يجازف بالتفريط بصفو منفاه مهما تطلب الأمر، ولا خيار أمامه سوى التشبث بحبال الصبر والإصرار والعناد.

التجأ إلى مرسمه مستنجداً بريشته التي طالما كانت ملاذه عند اشتداد الخطوب والمحن، متوسلا  سلواها ونجواها لانتشاله من حمى لهاثه وراء نشرات الأخبار وتحليلات الصحف، وقف قبالة اللوح الأبيض، تأمله ملياً، رسم اللوحة في مخيلته كعادته.. جبال خضراء داكنة تعانق السحاب.. تطل بشموخ على نهر عظيم هادر يتلوى بين سفوحها كأفعى (الأناكاندا) العملاقة التي تسكنه. نسور ذهبية تحلق في سماء داكنة سرق الضباب الكثيف زرقتها… استل ريشته وراح يسكب الفكرة ألواناً وخطوطاً على اللوح الأبيض، تراقصت الريشة بين أنامله بليونة غير معهودة.. تدفقت الألوان بزخم جنوني.. فقد إحساسه بالزمن واستسلم منتشياً لحالة انطلاق نادرة استبدت بكيانه هو خير من يعلم كنهها وقيمة ما ينجم عنها.. ها هي ذي ريشته تثبت جدارتها بحسن ظنه بها مجدداً.

كانت خيوط الفجر الأولى قد بدأت تمتزج بألوان تحفته الوليدة حين استفاق من نوبته ليُصعق بهول المكيدة التي وقع ضحيتها.. مؤامرة كاملة الأبعاد حيكت بتواطؤ صريح ما بين ريشته وألوانه.. وحتى أنامله.

تقهقر إلى الوراء بضع خطوات مشدوهاً بسحر ما تمخضت عنه نوبته الغريبة.. لا شيء فيها كما أراده.. كل شيء فيها يشدُّه ويشتهيه.. جبل أصفر أجرد شامخ يعانق سماء زرقاء صافية يطل بوقار على واحة غناء تحيط به من كل صوب كالسوار، نهر صغير عذب تتفرع عنه شرايين سبعة تنساب بهدوء في أرجاء الواحة مانحة الحياة لخمائلها الوارفة.. أسراب من الحمام الرمادي تقبّل أكفّ أطفال ممدودة بحفنات قمح.. برك ماء متناثرة تتلألأ كالمرايا، تموج بأسراب من أسماك ملونة تتراقص في مياهها البللورية، وفي زاوية قصية من اللوحة.. حيث يعانق سفح الجبل قعر الوادي المستلقي في أحضانه، قبعت بخشوع صخرة ناتئة نقشت عليها أسطورة عشق اختزلها بطلها بعبارة (اذكريني دائماً).

سرت القشعريرة في أوصاله، وتوهجت الذكريات في فؤاده كشعاع نور سطع بغتة مبدداً ظلمة كهف منسي، ومع بزوغ أول شعاع شمس كان قد حزم ريشته وألوانه وتحفة نوبته ومضى باحثاً عن مركب يمتطي صهوته ميمماً وجهه شطر الشمس والوطن والحب.

العدد 1107 - 22/5/2024