الحكومات الفلسطينية بين تحدي الواقع وحلم الدولة

منذ فجر التاريخ لم تشهد الأراضي التي تعرف باسم فلسطين التاريخية بناء مؤسسات دولة وحكومة وطنية تعبر عن الكيانية السياسية الفلسطينية وتدير شؤون الشعب الفلسطيني بشكل مستقل، إلى أن شُكّلت حكومة عموم فلسطين في 23 أيلول 1948 برئاسة السيد محمد حلمي الذي كان يحضر اجتماعات مجلس الجامعة العربية بصفة مراقب، كما كان لها ممثل للاجئين الفلسطينيين يحضر اجتماعات اللجنة السياسية للجمعية العامة للأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل الفلسطينيين في الشرق الأدنى.وقد عارض إنشاءها (الأردن، العراق، مصر)، ثم امتنعت الجامعة العربية عن دعوتها لحضور اجتماعات المجلس، ومنعتها الحكومة المصرية من ممارسة مهامها وأنشطتها في قطاع غزة إلى أن أغلق الرئيس جمال عبد الناصر مكتبها عام 1959.

ومن بين نتائج اتفاقية أوسلو السيئة الصيت والسمعة، والموقعة بين م.ت.ف والكيان الصهيوني عام ،1993 ولدت سلطة الحكم الذاتي الإداري الفلسطينية 1994 على قطاع غزة وعلى مناطق مجزأة من الضفة الغربية (أ، ب، ج) بمستوى مختلفة من صلاحيات السلطة الفلسطينية في تلك المناطق، وتشكلت أول حكومة فلسطينية عام 1996 برئاسة الرئيس ياسر عرفات، وقد حددت مهام الحكومة بإنهاء الاحتلال وبناء الدولة، واعتمدت السلطة في توجهاتها لنيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية على القرارات الدولية:

أ – قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة ت2/ 1947.

ب- القرار رقم 194 الخاص بعودة اللاجئين.

ج- القرار رقم 242 الخاص بانسحاب إسرائيل من المناطق المحتلة عام 1967.

وفي هذا السياق لم تنجح السلطة الفلسطينية في الحد من مظاهر الاحتلال (تعاظم الاستيطان – استمرار سياسة التهويد – ارتفاع عدد الحواجز الصهيونية لمنع التواصل الجغرافي بين مناطق الضفة واستمرار سياسة الاعتقال والمداهمات – الحصار الاقتصادي ومصادرة أموال الضرائب وبناء جدار الفصل العنصري). أما على صعيد بناء الدولة فقط بقيت النتائج متواضعة لعوامل وأسباب عديدة من أهمها سياسات الاحتلال، وطبيعة الاتفاقات التي نجمت في ضوء اتفاقية اوسلو وبعدها، واستمرار سياسة التفرد والهيمنة والاستئثار الفئوي التي تمارسها حركة فتح.

عام 2004 اغتيل الرئيس ياسر عرفات، وتولى رئيس الوزراء السابق محمود عباس رئاسة السلطة الفلسطينية، وسلام فياض رئاسة الحكومة الفلسطينية عام 2007 الذي جاء بضغط أمريكي ودولي، فقد أعطي حيزاً كبيراً لبناء مؤسسات دولة (التنمية الاقتصادية – الخدمات الاجتماعية – وأجهزة الدولة والبنى التحتية). وفي عام 2005 انسحب الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة في خطوة أحادية الجانب ودون اتفاق مع م.ت.ف.

ومع تحقيق أشكال من التنمية الاقتصادية والاجتماعية أثناء رئاسة السيد سلام فياض لحكومتين متتاليتن، إلا التنمية لم تكن متوازنة جغرافياً بين الضفة الغربية وقطاع غزة،لأسباب موضوعية، منها الحروب التي تعرض لها القطاع والحصار الصهيوني الذي ما زال مستمراً منذ أكثر من 10 سنوات. ولأسباب متعلقة بالبنية الفئوية للحكومات التي شُكلت بشكل عام، فحسب إحصائية لصندوق النقد الدولي شهدت الضفة الغربية نمواً وارتفاعاً في نصيب الفرد منالدخل القومي من1580 دولاراً سنوياً إلى 1940 دولاراً بزيادة قدرها 22% بين عامي 2004 و2010 وتراجع معدل البطالة من 19% إلى 16% عام 2011.

أما في غزة فقد تراجع نصيب الفرد من 886 دولاراً إلى 876 دولاراً خلال الفترة ذاتها، وارتفعت نسبة البطالة من 40% عام 2010 إلى أكثر من 70% خلال ،2014 وبقيت نحو 53% لمن هم في سن الـ 30 خلال 2008 – 2010.كما يشير مركز المعلومات الوطني إلى أن معدل إنفاق الأسرة الشهري المكونة من 6 أفراد لعام 2007 يصل إلى 807 دنانير أردنية في الضفة و415 ديناراً أردنياً في قطاع غزة. وأن خط الفقر 580 دولاراً للأسرة الفلسطينية، إذ تبلغ نسبة 23.6% في الضفة الغربية و55.7% في القطاع، وازدادت هذه النسبة ارتفاعاً في قطاع غزة عام 2015.

في عام 2006 جرت انتخابات رئاسية وتشريعية، وفازت حركة حماس بالأغلبية المطلقة من مقاعد المجلس التشريعي، وشكلت حكومتها الخاصة التي شكلت عملياً مؤسسة الانقسام، فقد استولت حماس على السلطة بانقلاب عسكري عام 2007 وشُكّلت في الواقع حكومتان، واحدة في رام الله تديرها حركة فتح والأخرى في غزة تديرها حركة حماس، وأخذ الانقسام طابعاً مؤسساتياً وعلى الصعد كافة. فقد بدا واضحاً أن النجاح في تشكيل حكومة، أية حكومة، أصبح هدفاً بحد ذاته، وأكثر أهمية من أن تكون أداة من أدوات بناء الدولة وأحد قطاعاتها التي تتغير باستمرار، إلا أن عملية بناء الدولة عملية مستمرة بغض النظر عن طبيعة الحكومة التي تتولى إدارة الدولة والشعب الفلسطيني على الصعد الداخلية والخارجية.

عام 2014 شُكّلت حكومة الوفاق الوطني نتيجة التراضي بين فتح وحماس، وهي لا تتجاوز صلاحياتها المعبرة عن كيانتها الوطنية أكثر من صلاحيات رئيس بلدية في بقعة جغرافية أخرى. وترأسها السيد رامي الحمد الله، وأدت اليمين الدستورية في2 حزيران 2014 علماً أن إسرائيل منعت وزراء غزة من الحضور إلى الضفة لتأدية اليمين الدستورية وأعلنت الحكومة أهدافها التالية:

1- إعادة إعمار قطاع غزة ورفع الحصار الصهيوني.

2- توحيد مؤسسات السلطة.

3- الإعداد لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية.

على الرغم من الجهود التي قيل إنها بذلت لإنهاء الانقسام والتوصل إلى العديد من الاتفاقات إلا أن هوة الانقسام اتسعت وتعمقت في المجتمع الفلسطيني مما أعاق مهام بناء مؤسسات الدولة:

– اتفاق القاهرة، آذار 2005.

– وثيقة الوفاق الوطني، أيار 2005.

– اتفاق مكة، شباط 2007.

– إعلان الدوحة، 2012.

في أواسط حزيران 2015 أبلغ الرئيس محمود عباس المجلس الثوري لحركة فتح (أن حكومة التوافق الوطني) ستقدم استقالتها خلال يوم واحد، وأنه يرغب في إجراء تفاهمات مع حركة حماس لتشكيل حكومة توافق مع شخصيات مستقلة أو حكومة وطنية مستقلة، وإذا رفضت حماس سيبقى التشاور في إطار (م.ت.ف))، وهي في الحقيقة خطوة فردية ذات طابع فئوي أكثر مما هي بدوافع ذات أبعاد وطنية

في إطار ردود الفعل، رأى القيادي في حركة حماس إسماعيل رضوان في تصريح له لموقع (المدن) أن إعلان عباس استقالة الحكومة هروب للأمام وقرار متفرد من حركة فتح، وأن حماس ترفض هذه الخطوة وتريد أن تكون المشاورات والخطوات الفلسطينية كلها بالتشاور والتفاهم بين الجميع. وقد صدر بيان عن حركة حماس يوضح موقفها من تشكيل حكومة جديدة جاء فيه:

في ضوء ما تردد من تكليف اللجنة التنفيذية للمنظمة السيد عزام الحمد بالتشاور لتشكيل حكومة جديدة خلفاً لحكومة الوفاق الوطني المزمع إقالتها، فإننا في حركة حماس نؤكد على ما يلي:

أولاً- اللجنة التنفيذية ليست المعنية بتشكيل الحكومة، وعليه فالمطلوب دعوة الإطار القيادي المؤقت لمتابعة ملفات المصالحة كافة.

ثانياً- ندعو الفصائل الفلسطينية الموقعة على اتفاق القاهرة إلى حوار شامل لتطبيق اتفاقات المصالحة بملفاتها المختلفة، وعلى رأسها البحث بتشكيل حكومة وحدة وطنية.

ثالثاً- أي حكومة يتم تشكيلها يجب أن تكون حكومة مهمات ودون برنامج سياسي، وهذا ما تم الاتفاق عليه في اتفاق المصالحة.

رابعاً- لا بد أن تنال الحكومة ثقة المجلس التشريعي قبل أن تباشر مهماتها.

خامساً- إنه على الحكومة أن تضع حلاً فورياً لمشكلة الموظفين دون أي شروط مسبقة).

في الوقت الذي اتخذت فيه سلطة حماس العديد من القرارات بشكلٍ منفرد دون استشارة الفصائل الفلسطينية الموجودة في قطاع غزة (الإعدامات أثناء حرب الجرف الصامد الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة عام 2014) وفرض قانون ضريبة التكافل الاجتماعي في بداية نيسان 2015 الذي يفرض ضرائب على السلع والموارد المستوردة، بواسطة كتلتها البرلمانية التي تشكل الأكثرية في المجلس التشريعي، والذي رفضه مجلس وزراء سلطة رام الله، وتمسّكها الضمني بحكومة الظل التي تحكم قطاع غزة رغم عدم نيلها الثقة من المجلس التشريعي.

فالشروط التي وضعتها حركة حماس تحمل في طياتها العديد من المغالطات السياسية خاصة من ناحية دور اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير على المستوى الوطني، فهي تسعى وتحاول أن تستبدل بها الإطار القيادي المؤقت، لأن حركة حماس لا تعترف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، وبالتالي فهي تستهدف إقرار عدم الاعتراف هذا بموافقة فصائل المنظمة. ولماذا تطالب حماس الآن بدعوة الفصائل الموقعة على اتفاق القاهرة عام 2005 إلى حوار شامل… لتطبيق اتفاقات المصالحة بملفاتها المختلفة؟!

كما أن بيان حركة حماس لم يتطرق إلى الإعداد لانتخابات رئاسية وتشريعية جديدة،الذي كان من بين مهام حكومة الوفاق الوطني التي شاركت فيها حركة حماس عام 2014 برئاسة السيد رامي الحمد الله.وهي بذلك لا ترغب بأي انتخابات جديدة قد تجردها من أغلبية المجلس التشريعي المنتهية ولايته منذ أكثر من خمس سنوات. وهذا الموقف ينسجم مع نوايا حركة حماس التي قد تقود إلى الفصل النهائي بين القطاع غزة والضفة الغربية. في هذا الصدد من الجدير ذكره أن كلاً من السلطتين لا تقيم وزناً للمنظمات الفلسطينية الأخرى، إلا إذا كانت بحاجة إلى (ورقة التوت) للتغطية على مواقف وإجراءات تنوي اتخاذها، وليس من قبيل القناعة بضرورة المشاركة في صنع القرار الوطني، فكل الاتفاقات التي عقدت بين الحركتين لم تستشر فيها المنظمات الفلسطينية ولو شكلياً.

أما فيما يتعلق بمواقف الفصائل الفلسطينية الأخرى فقد رفضت الجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي المشاركة في الحكومة المزمع تشكيلها.

انطلاقاً من اعتبار أن الحكومة هي أحد قطاعات الدولة وأداتها السياسية والإدارية، ونظراً لخصوصية القضية الفلسطينية،فمن الضروري أن توضع استراتيجية شاملة لبناء الدولة لخلق (دولة الأمر الواقع)، خاصة أن الجهود الفلسطينية قد نجحت في نقل وضع سلطة الحكم الذاتي الإداري من وضع (سلطة) إلى وضع (دولة) بحصولها على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 19/67 بتاريخ 29 تشرين الثاني 2012 بتأييد 138 دولة بمنح فلسطين صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة. مع قناعتنا بأن هذا الأمر سيبقى محكوماً بسقف اتفاقية أوسلو.. وفي الوقت ذاته وضع استراتيجية سياسية تشكل منطلقات أساسية في حكومة فلسطين، وتنطلق من المصالح الوطنية العليا الثابتة للشعب الفلسطيني، تلتزم بها جميع الحكومات الفلسطينية المتعاقبة ويقع في أولويات مهامها:

1 – إنهاء مظاهر الاحتلال وخلق التواصل الجغرافي بين مناطق الدولة الفلسطينية.

2- وقف التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني وحصر مهام الأجهزة الأمنية في الحفاظ على السلم الأهلي، ورفض تدخل الأجهزة الأمنية في الشأن السياسي.

3- الاستمرار في بذل الجهود لعزل (إسرائيل) ومقاطعتها على الصعيد الدولي وفي المجالات الاقتصادية – القانونية – الأكاديمية كافة.. إلخ.

4- الفصل بين عملية بناء الدولة وعملية التفاوض.

5- الإعداد لانتخابات تشريعية ورئاسية جديدة.

العدد 1105 - 01/5/2024