على أبواب المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد: الاشتراكية العلمية في العالم العربي

قبل الحرب العالمية الأولى (1914) بدأت الطبقة العاملة في الأقطار العربية بالتكون في مؤسسات الرأسمال الأجنبي، الذي اجتاح الأقطار العربية، مع ظهور الإمبريالية في أواخر القرن التاسع عشر ومستهل القرن العشرين، كما تناثرت مجموعات عمالية أخرى في الورش الحرفية المتطورة نسبياً إلى المانيفكتورات.

وفي مصر، القطر العربي الأكثر تطوراً، أخذت جذور الحركة العمالية تنغرس في تربته على الرغم من القهر الإقطاعي والاستغلال الرأسمالي الكولنيالي، وقد عرفت مصر أول إضراب عمالي في آذار 1882 قام به عمال تفريغ الفحم في ميناء بور سعيد للمطالبة بزيادة الأجور، وقد سجل عام 1899 بداية تحركات عمالية استمرت حتى عام 1907 وظهرت تنظيمات نقابية أطلق عليها اسم (جمعية) لم تكن امتداداً لنظام الحرف والطوائف الحرفية الملغى رسمياً عام 1890.

إن قوة الحركة العمالية المصرية دفعت بالحزب الوطني الذي تأسس عام 1907 إلى الاهتمام بالعمال، وخاصة بعد أن تسلم محمد فريد المعروف بتأثره بالأفكار الاشتراكية في أوربا قيادة الحزب. وفي عام 1907 تأسس الحزب الوطني ووزع شبابه في القاهرة منشوراً يدعو المصريين إلى دراسة الاشتراكية.

وفي أول تموز 1911 كتبت (اللواء) جريدة الحزب الوطني مقالة عن الاشتراكية رمت من ورائها إلى كسب القاعدة العمالية في مصر في الكفاح ضد الاستعمار الإنكليزي والاستبداد الإقطاعي.

في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى لمع في مصر عدد من الديمقراطيين الثوريين ذوي الأصل الشامي (معظمهم من لبنان)، الذين بشروا بالاشتراكية.

جاء في مقدمة هؤلاء الدكتور شبلي شميّل، الذي حكمت عليه محاكم جمال باشا بالإعدام، بسبب نشاطه المعادي للحكم العثماني، وكان شميّل قد كتب في عام 1908 أن (الاشتراكية نتيجة لازمة لمقدمات ثابتة لابد من الوصول إليها ولو بعد تذبذب طويل).

وفي عام 1913 صدر في مصر كتاب سلافة موسى تحت عنوان(الاشتراكية)، وكان سلامة موسى متأثراً تأثراً واضحاً بالفابية البريطانية، التي مارست تأثيراً واضحاً أيضاً على الحزب الاشتراكي المصري المؤسس بعد الحرب العالمية الأولى 1918.

ويسترعي الانتباه كتاب (تاريخ التيارات الاشتراكية) لمصطفى المنصوري، الصادر في القاهرة عام 1915 وقد تحدث المنصوري مطولاً عن ماركس وعن الملكية الرأسمالية والإمبريالية والحروب، وأكد حتمية انتصار الاشتراكية في العالم.

ومع تفتّح الأفكار الاشتراكية في مصر أخذت أصوات العمال ترتفع مطالبة بسن تشريع للعمال.

وقد عبر عن رأي الطبقة العاملة التي كانت لاتزال في الطور الجنيني، عدد من المثقفين الثوريين الديمقراطيين المتأثرين بالتناقضات الاجتماعية الداخلية وبالحركات العمالية والاشتراكية الأوربية.

فرح أنطون، اللبناني الأصل والمقيم في مصر، صاحب مجلة (الجامعة)، كتب في روايته (الدين والعلم والمال) الصادرة في مصر عام 1903 مايلي: (إن معامل الأمة ومصانعها ومتاجرها وأراضيها هي من مرافقها ومنافعها كالأنهر والأبحر والهواء، ولذلك لا يجوز أن يكون ملكاً لفرد أياً كان، بل هي ملك لجميع الأمة.. فعلى الأمة إذاً أن تتولى إدارتها بنفسها وتوزع أرباحها بين أبنائها، أي أن الحكومة تجعل نفسها التاجر الوحيد الذي تنحصر في يده تلك المتاجر والمصانع والمزارع).

وكان فرح أنطون قد صدّر كتابه هذا بعبارة (فليحذر العالم من يوم يصير فيه الضعفاء أقوياء، والأقوياء ضعفاء).

وعندما نشبت ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 حياها فرح أنطون، ولكنه كان خائفاً في البدء من فشلها، وكان يقول: (إن الحركة البلشفية قد تفشل لقلة استعداد أهلها لها، وهي كتجربة إذا فشلت أخّرت الحركة الاشتراكية أمداً مديداً)، ولكنه عاش حتى 1922 ومات وهو قرير العين بانتصار الثورة الاشتراكية في سدس الكرة الأرضية.

إن المتتبع لصفحات الجرائد والمجلات التقدمية العربية يلمس بوضوح أحلام وتطلعات مفكري التيار الديمقراطي الثوري الذين عبروا في كتاباتهم عن آلام الطبقات المضطهدة وتطلعاتها، وشكلوا الجناح اليساري داخل الحركة القومية العربية الناشئة قبل الحرب العالمية الأولى.

في ذلك الوقت لم تكن الطبقة العاملة العربية قد تكونت بعد، والحركة القومية العربية تألفت آنذاك من القسم الليبرالي للإقطاعية والبرجوازية التجارية المرتبطة بالإنتاج المحلي، والمثقفين ذوي التطلعات البرجوازية الطامحين إلى تحديث المجتمع ونقله من أغلال العلاقات الإقطاعية إلى العلاقات الرأسمالية. وعملية الانتقال هذه كانت في حينها ثورة تقدمية، ومن قلب تلك العناصر المثقفة برز رواد قلائل أرادوا دفع العملية الثورية وعملية النهضة إلى الأمام بصورة أكثر حزماً، وهؤلاء شكلوا ما يمكن تسميته يسار الحركة القومية العربية، الذي دعا إلى الاشتراكية بشكلها الطوباوي، وتحدث عن مجتمع تسوده العدالة الاجتماعية دون أن يبحث عن أداة تحقق تلك العدالة. وكان لابد من الانتظار حتى بداية تكوّن طبقة عاملة واندفاع عناصر برجوازية صغيرة ذات ثقافة ثورية لرفع راية الاشتراكية العملية التي تحققت على أرض الواقع بفضل ثورة أكتوبر الاشتراكية وما حملته للشعوب من آمال الخلاص من الاستغلال والاستعباد.

العدد 1105 - 01/5/2024