تراجعَ الأمريكيون.. ولم تسقط الاشتراكية في كوبا

شكلت معركة (سانتا كلارا)، التي حدثت يوم 1 كانون الثاني 1959 بقيادة فيدل كاسترو وأرنستو تشي غيفارا نقطة التحول في تاريخ كوبا المعاصر. إذ  قضت على نظام باتيستا المدعوم من واشنطن، والذي رهن البلاد ومقدراتها لمجموعة من المستغلين نهبوا البلاد وسرقوا خيراتها. وبعد دخول الثوار العاصمة هافانا يوم 8 كانون الثاني 1959 وتشكيلهم للحكومة، بدؤوا بتطبيق المبادئ التي وردت في بيان  (سييرا مايسترا) الذي شكل خطة ومنهاج الثورة التي قادها فيدل كاسترو.

ومنذ ذلك الوقت بدأت العلاقة بين الولايات المتحدة وكوبا بالتوتر تدريجياً حتى وصلت إلى مرحلة الانفجار إثر قيام الحكومة الكوبية بتأميم مزارع قصب السكر ومصادرة الممتلكات الأمريكية في الجزيرة وخصوصاً مصافي البترول التابعة لشركات أمريكية، وأعلنتها حرباً ضروساً على (اليانكي) وهم المستغلون الأمريكيون في الجزيرة.

وصول حكومة تحمل الفكر اليساري والمبادئ الأممية إلى منطقة تعتبرها واشنطن ضمن المجال الحيوي لأمنها القومي جعلها تناصبها العداء منذ اللحظات الأولى، فعمدت إلى محاولة إسقاطها بشتى السبل. بدءاً من قرار إيزنهاور تدريب المعارضة الكوبية للإطاحة بالنظام الثوري في هافانا، وقد فشلت بعد عملية خليج الخنازير عام 1961 التي حدثت إبان حكم الرئيس كنيدي. وانتقلت إلى محاولة اغتيال قائد الثورة الكوبية فيدل كاسترو عن طريق عصابات المافيا (عملية النمس). خلال هذه الفترة قامت هافانا بهجوم مضاد، فدعمت حركات التحرر الثورية في أمريكا اللاتينية، ما جعل واشنطن تستشيط غضباً بعد أن وصل (الخطر الأحمر) إلى حدائق البيت الأبيض الخلفية. بعد ذلك فرضت الولايات المتحدة حصاراً خانقاً على كوبا للتقليل من قدرة هافانا ورغبتها في (تصدير التخريب والعنف إلى الدول الأمريكية الأخرى) حسب البروباغاندا الإعلامية لواشنطن، وإظهار فيدل كاسترو أمام الشعب الكوبي، على أنه لا يخدم مصالحه وتطلعاته.

خلال هذه الفترة نشبت أزمة الصواريخ الكوبية أو أزمة الكاريبي بين واشنطن وموسكو، ذلك أنه في آب (أغسطس) 1962 في أعقاب عدة عمليات فاشلة للولايات المتحدة لإسقاط النظام الكوبي (غزو خليج الخنازير وعملية النمس) شرعت حكومتا كوبا والاتحاد السوفيتي في بناء قواعد سرية لعدد من الصواريخ النووية المتوسطة المدى في كوبا، والتي تعطي السوفييت إمكانية ضرب معظم أراضي الولايات المتحدة. هذه الأزمة انتهت في 28 تشرين الأول ،1962 عندما توصل كلّ من الرئيس الأمريكي جون كينيدي وأمين عام الأمم المتحدة يو ثانت إلى اتفاق مع موسكو لإزالة قواعد الصواريخ الكوبية شريطة أن تتعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا، وأن تقوم بالتخلص بشكل سري من الصواريخ البالستية المسماة بجوبيتر وثور.

بعد مضي عشر سنوات على سياسة الحصار الاقتصادي ضد كوبا بغير فعالية تذكر، انقلب أشد المؤيدين لها عام 1964 إلى أبرز المعارضين عام 1974بعد أن بدأ تحول في الرأي العام الأمريكي بتأثير الصحافة والكتاب والسياسيين، وخاصة بعد سياسة الوفاق في عهد نيكسون، فقد حثت الصحافة الأمريكية على بدء التفاوض مع كوبا منذ منتصف عام 1974 وخصوصاً بعد خروج نيكسون من السلطة. وبعد انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي حصل انفراج نسبي في العلاقات بين هافانا وواشنطن دون أن يؤدي ذلك إلى تطبيع العلاقات الثنائية أو رفع الحصار الاقتصادي والتجاري الأمريكي عن كوبا.

ويبدو أن باراك أوباما الذي يحلم كمعظم الرؤساء الأمريكيين بأن يترك بصمته في التاريخ العالمي، بصفته (صانعاً للسلام)، قرر أن يغلق آخر فصول الحرب الباردة، رافعاً الحصار عن الجزيرة الشيوعية في العالم الغربي التي تبعد 90 ميلاً عن الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن باءت مساعيه بالفشل لحل النزاع المفضل لدى الرؤساء الأمريكيين وهو (النزاع في الشرق الأوسط).

محادثات سريّة

نقلتcnbc  عن مصادر أمريكية أنّ محادثةً هاتفية جرت بين أوباما وكاسترو يوم الثلاثاء 16 كانون الأول 2014 استمرت لمدّة 45 دقيقة، في اتصال هو الأوّل على مستوى رئيسي البلدين منذ عام 1961.

وأضافت أنه (لأكثر من عام حصلت محادثات سرية بين مسؤولين من البلدين في كندا والفاتيكان)، لافتة إلى أن البابا فرنسيس بعث رسائل منفصلة للرئيسين دعاهما فيها لبذل جهود إنسانية من أجل تسوية الأوضاع. وقد شكر أوباما بابا الفاتيكان على دعمه لهذه القضية. وأكد السناتور الديمقراطي ريتشارد ديربن في حديث لوكالة (رويترز) أن الفاتيكان لعب دوراً بارزاً، مشيراً إلى أن كبير أساقفة هافانا الكاردينال خايمي أورتيجا شارك في عودة العلاقات.

وكان أوباما قد أعلن في خطاب ألقاه في البيت الأبيض يوم الأربعاء 17 كانون الأول 2014  أنه سيعمل على تطبيع العلاقات مع كوبا من خلال مجموعة كبيرة من الإجراءات، تبدأ بتخفيف القيود على السفر وتقليص القيود الاقتصادية، مشيراً إلى أن واشنطن ستبدأ محادثات مع كوبا ومؤكداً أن (الخمسين عاماً الماضية أظهرت أن عزل كوبا لم يعط نتيجة وحان الوقت لاعتماد مقاربة جديدة). وقال إنه سيتحدث إلى الكونغرس الأمريكي ليطلب منه رفع الحظر المفروض على كوبا، مضيفاً: (سننهي سياسة عفا عليها الزمن في العلاقة مع كوبا).

وتزامناً مع كلمة أوباما، ألقى الرئيس الكوبي راؤول كاسترو خطاباً بثته وسائل الإعلام الرسمية أكد فيه أنه اتفق مع نظيره الأمريكي (على إعادة العلاقات الدبلوماسية) بين البلدين، لافتاً إلى أن (هذا لا يعني أن المشكلة الرئيسية أي الحصار الاقتصادي تمت تسويتها).

قرار أوباما هذا لاقى معارضة قوية من الجمهوريين، إذ إن رئيس مجلس النواب الجمهوري جون بينر، وصف إعلان أوباما بدء تطبيع العلاقات مع هافانا بأنه (تنازل آخر في سلسلة طويلة من التنازلات الطائشة) لصالح (ديكتاتورية متوحشة). بينما أيده الديمقراطيون وخصوصاً هيلاري كلينتون المرشحة لمنصب رئيس الولايات المتحدة، فقد أصدرت بياناً في اليوم نفسه الذي أعلن فيه أوباما قراره قالت فيه: (على الرغم من النوايا الحسنة عززت سياسة العزلة التي انتهجناها لعقود قبضة نظام كاسترو على السلطة، وكما قلت فإن أفضل طريق لإحداث تغيير في كوبا هو إطلاع شعبها على القيم والإعلام ووسائل الراحة المادية في العالم الخارجي).

ردود فعل الكوبيين

التحول التاريخي في العلاقات الأمريكية الكوبية استقبِل بالترحيب في العاصمة الكوبية هافانا، وخصوصاً في أوساط الطلبة الذين خرجوا إلى شوارعها محتفين بهذا التغيير في سياسة حكومتهم التي هتفوا بشعارات موالية لها. وتشير الإحصائيات إلى أن أكثر من ثلثي الكوبيين في الولايات المتحدة يؤيدون تخفيف الحظر وتيسير التنقل بين البلدين.

تراجع الأمريكيون..وانتصر الكوبيون.. ولم تسقط الاشتراكية في كوبا.

كاسترو: لن نتخلّى عن مبادئنا الاشتراكية

بعد أيامٍ على إعلان إعادة العلاقات الأمريكية  الكوبية، دعا الرئيس الكوبي راؤول كاسترو، الولايات المتحدة إلى احترام النظام الاشتراكي في كوبا، مشدداً على أن الاقتصاد سيظلّ (أولوية) بالنسبة لبلاده.

وقال كاسترو، إنه مستعد لبحث الكثير من القضايا (التي يجب أن تغطّي أيضاً الولايات المتحدة)، مشدداً في الوقت نفسه على أن كوبا (لن تتخلى عن مبادئها الاشتراكية).

العدد 1105 - 01/5/2024