حرب الغاز بين الشرق والغرب (2من2)

2ـ دخلت روسيا في عقود شراء غاز طويلة الأجل تمتد حتى عام 2018 وذلك مع كل حكومات الدول التي يفترض أن تغذي بالغاز خط نابوكو! وبالتالي احتكرت بيعه إلا عن طريقها وعبر أنابيبها، وفي ضوء ذلك انسحبت تلك الدول من أي تعهدات لإمداد (نابوكو)، وأعلنت أخيراً أنه حتى ولو بعد تطوير حقولها الغازية ووجود فائض في الغاز المنتج عن تلبية تعهداتها لروسيا والصين، فلن تبيع الغاز لخط نابوكو، كما أن أذربيجان التي يعول عليها كثيراً بعد انسحاب تركمانستان من إمداد النسبة الأكبر من الغاز المنقول إلى أوربا، دخلت هي الأخرى في تعهدات مع روسيا بعقود بيع طويلة المدى، إذ وقعت روسيا معها في حزيران 2010 اتفاقاً لشراء حصة كبيرة من غازها، لكنها أعلنت في الوقت نفسه أنها ستبيع الغاز الفائض لـ(نابوكو)، إلا أنها عادت للإعلان منذ شهور قليلة عن أنها لن تبيع خط نابوكو أي كمية من غازها حتى لو فاض عن العقود الروسية والصينية! وعلى أية حال فإن الفائض لا يعول عليه في ملء أنبوب غاز (نابوكو)، مما زاد في غموض الجهة التي سيعتمد عليها الخط السيئ الحظ.
الشق الثاني من هذا المحور الاستراتيجي هو قيام روسيا بتوطيد علاقاتها مع الدول المالكة لثاني وثالث أكبر احتياطي في العالم، وإنشاء منظمة للدول المصدرة للغاز بينها وبين إيران وقطر.
إن إنشاء هذه المنظمة التي تضم أول وثاني وثالث أكبر احتياطي في العالم زاد من تقوية موقع روسيا على ساحة الطاقة الدولية، وصارت المنظمة وسيلة جديدة في بسط نفوذها الدولي في مجال الغاز. وعلى الرغم من طمأنة الروس نظراءهم المستهلكين الأساسيين للغاز وعلى رأسهم الدول الأوربية، إلا أن دول الاتحاد الأوربي وكذلك الولايات المتحدة عبروا عن استيائهم من هذه الخطوة، لأنها تتيح لروسيا التحكم في مصير هذا التجمع وقراراته نظراً لامتلاك الروس الاحتياطي الأكبر لهذه السلعة الاستراتيجية في العالم (47 %) وكذلك لأنها المنتج الأكبر لها، وقد وافقت روسيا على أن تكون الدوحة عاصمة قطر مركزاً لهذه المنظمة، في خطوة روسية تطمينية لأوربا والولايات المتحدة.
3ـ تكثيف الجهود لبناء خطوط غاز إضافية:
وتوجهت روسيا في هذا المحور الاستراتيجي إلى تكثيف الجهود لبناء خطوط غاز إضافية ضخمة، واستمالت بعض الدول الأوربية للمشاركة في بنائها، كخط غاز(السيل الشمالي) الواصل بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق، الذي تم تشغيله قبل عام من موعد انتهائه المقرر وهو الآن قيد التشغيل، وكذلك خط غاز (السيل الجنوبي) الذي يمر تحت مياه البحر الأسود، وصولاً إلى بلغاريا، متجنباً المرور بأوكرانيا، ويمكن أن يكون جاهزاً في عام 2015.
وقد حققت الاستراتيجية الروسية بمحاورها الثلاثة نجاحاً باهراً، وأيقنت بأنها أجهضت مشروع نابوكو وجففت كل المصادر المحتملة له، واتضح جلياً أنه من غير المعقول بناء أنبوب لنقل غاز لا يوجد من يزوده بالغاز.
تمتلك روسيا حالياً جميع خطوط الأنابيب الغازية العابرة للحدود وصولاً إلى أوربا، ولم تتردد على لسان دبلوماسييها في السخرية اللاذعة في المحافل الدولية من المشروع، فاعتبرته زوبعة موسيقية سياسية! أو (إنشاداً فوضوياً يؤديه الأوربيون، ويذكّر بالكورس الساحر في أوبرا نابوكو الذي يضم العبيد العبريين الحلوين، وفي الوقت نفسه المكتئبين اليائسين).
والشكل (2) يمثل خطّي الغاز السيل الشمالي والجنوبي الروسيين.

روسيا ومشروع الشرق الأوسط الكبير
نجحت سياسة بوتين حتى الآن في إبعاد أمريكا عن غاز وسط آسيا وغاز إيران! ومازالت تسعى لإبعادها عن غاز شرق المتوسط المكتشف حديثاً قبالة سواحل فلسطين المحتلة ولبنان وسورية، (وهذا ما يفسر وجود شركات روسية ـ صينية تنقب عن الغاز أمام الساحل الإسرائيلي). وقد ساعدها على هذا النجاح وجود حليف مثل إيران يستطيع تأمين الاستقرار في دول ساحل بحر قزوين الشمالي وآسيا الوسطى خاصةً الإسلامية (مناطق الغاز)، ومنع الأصابع الأمريكية من التسلل إليها (كما تسللت إلى أوكرانيا)، كما أن الدعم الروسي بالمقابل ساهم في صمود إيران أمام الضغط الغربي من أجل المفاعلات النووية وتخصيب اليورانيوم، وأصبح التحالف الروسي الإيراني نموذجاً ناجحاً يحتذى أمام كل الدول التي تبحث عن طريق تطورها الخاص بإمكاناتها الذاتية بعيداً عن جشع الغرب واستغلاله.
طبعاً لا يمكن مقارنة روسيا اليوم بالاتحاد السوفييتي السابق، ففي ذلك شيء من السذاجة، والذين يشيدون اليوم بالتأييد الروسي للنظام في سورية على هدي التأييد التاريخي القديم واهمون، النظام الروسي اليوم هو نظام رأسمالي تماماً تقوده الاحتكارات النفطية كما تقود الولايات المتحدة! الفرق: أن الاقتصاد الروسي لم يصل بعد إلى مرحلة البحث عن أسواق، فبنيته الرئيسة تعتمد على الخامات الطبيعية كالنفط والغاز والذهب، وبالتالي فالسياسة الروسية مازالت بعيدة عن النهج الاستعماري للغرب الصناعي، وهي لا تطمع من جهةٍ أخرى بثروات المنطقة (كما هو الغرب) فعندها ما يماثلها ويزيد! إنها فقط، في هذه المرحلة، تريد لملمة الحلفاء للوقوف في وجه الطغيان الأمريكي وكسر شوكته في المنطقة وإبعاد نفوذه عنها، واحتكار إنتاج الغاز في آسيا وبيعه! وهذا ما يناسب مصالحنا الاستراتيجية دولة وشعبً وطبعاً نظاماً، لكن من الخطأ أيضاً وضع روسيا وأمريكا في خانة واحدة من هذه الناحية! ففي هذا خلط للأوراق هدفه التشكيك بالنوايا الروسية ومساواتها بالنوايا الأمريكية لإضعاف تحالفنا مع الروسي، وهذا ما يخدم المخطط الأمريكي.
ختاماً نستطيع القول إن روسيا الصاعدة استطاعت أن تكوّن تحالفاً دولياً واسعاً لكل بلاد العالم المتضررة من السياسة الإمبريالية الأمريكية، واستطاع هذا التحالف أن يقف أمام المخطط الأمريكي (مشروع الشرق الأوسط الكبير)، بل استطاع إفشاله أيضاً! وظهر ذلك جلياً بعد التراجع الأمريكي إلى طاولة المفاوضات في جنيف(2) بعد تصعيده العسكري باتجاه النظام السوري مؤخراً، ثم تراجعه المخزي.

العدد 1104 - 24/4/2024