على أبواب المؤتمر الثاني عشر للحزب الشيوعي السوري الموحد.. مهام الثقافة الوطنية

إن الظروف الصعبة التي تواجه وطننا في المرحلة الحالية المعقدة من تاريخ بلادنا تفرض على شعبنا وحزبنا مهام نضالية وطنية كبرى في مختلف الميادين، ويشكل العمل الثقافي والفكري التنويري واحداً من أهم تلك الميادين على طريق إنقاذ البلاد، ولنشر الوعي الشعبي في مواجهة الإرهاب والأفكار الظلامية، والتضليل الإعلامي الإمبريالي والرجعي، ولصيانة وحدة البلاد، واستقلالها وسيادتها، وتحرير الأرض المحتلة، والمساهمة قي البحث عن المعالجات الواقعية لمشكلات التنمية والتقدم، ونشر الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

إن للعمل الثقافي دوراً شديد التأثير في تنمية المجتمعات وتطورها وتقدمها، وبناء مجتمع المعرفة. وتعد الثقافة أهم الروابط على صعيد الأفراد والمجتمعات، وهي كذلك على صعيد العلاقات الدولية، وهي حجر الزاوية في البناء الحضاري الإنساني المشترك للشعوب بثقافاتها المتعددة والمساهمة في صيانة السلم العالمي وهناك ارتباط جدلي بين المعرفة  والإنتاج الاجتماعي، فكل إنتاج اجتماعي يستلزم معرفة، وينطوي على معرفة، ويتجلى الدور الهام للتفكير العلمي المعرفي في التجديد المتواصل للقاعدة الإنتاجية، وفي تحديث الوعي الاجتماعي على أرضية القيم العلمية والعقلانية، وفي استهدافه للتغيير الاجتماعي، وإنهاض وعي ثقافي اجتماعي وطني مؤثر في مجرى الأحداث.

بعض سمات الثقافة

إن الثقافة التي تساند وحدة الوطن وبنائه وحمايته وتنميته، وترفض كل أشكال الاحتلال والعدوانية الإمبريالية والصهيونية والرجعية المتواطئة معها، وترفض أيضاً كل أشكال القهر السياسي والاجتماعي والاستغلال الطبقي، وتدعو لتحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع عادل للثروة، ومساواة المواطنين أمام القانون في الحقوق والواجبات، وتحضّ على رعاية الحريات العامة، وعلى تجسيد مفاهيم الديمقراطية في الواقع، ورفع مستوى الوعي الوطني، وتحترم كرامة الموطن وحقوقه وتغني معارفه، وتتبنى المنهج العلمي في التفكير، وتحارب الجهل والتخلف، وترفض الانعزال، وتناصر حرية الشعوب، هي الثقافة التي ندعوها الثقافة الوطنية.

إن توفير المزيد من الديمقراطية الثقافية والسياسية وحرية التعبير تؤسس لنهوض وعي ثقافي وطني أكثر قدرة على المساهمة في تطوير البلاد ومنعتها، فلا يمكن تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية فاعلة ومنتجة إذا لم تستند إلى قاعدة ثقافية علمية عريضة، محورها تنمية الفكر والوجدان والارتقاء بالحياة الإنسانية، مما يعطي للثقافة مفهوماً واقعياً علمياً مؤثراً، والمستقبل هو دائماً للأفكار النامية القادرة على تلبية متطلبات التطور الاجتماعي. والفكر الذي يخدم قضايا المجتمع وتقدمه يأخذ الاتجاه الصحيح في تأدية مهامه. أما الفكر الذي يبرر الظلم الاجتماعي والاضطهاد العنصري والاستبداد ويدعم العصبيات المتطرفة ما قبل المدنية  فهو فكر لا إنساني ولا أخلاقي ينبغي نبذه وفضحه ومقاومته.

بعض مهام المثقفين

 في ظروفنا الحالية يتحتم على المثقفين نشر ثقافة التسامح والعيش المشترك والاحترام المتبادل، واعتبار ذلك خياراً لا بديل عنه درءاً لمخاطر تفكك المجتمع وكيان الدولة القائم. وأن يترافق ذلك في الوقت نفسه مع الدعوة لترسيخ بناء دولة وطنية ديمقراطية علمانية تعددية، تتسع لجميع أبنائها على أساس مبدأ المواطنة المتساوية التي تضمن المشاركة والحقوق السياسية والثقافية لكل المواطنين دون تمييز أو إقصاء أو تهميش.

وفي صلب مهام المثقفين أيضاً البحث عن الحقيقة، وممارسة النقد، واستشراف المستقبل والمصلحة العامة، والخضوع لمعايير العقل، والمثل الوطنية، والقيم الإنسانية العليا، والعمل لخلق وعي مجتمعي متقدم يصون حقوق المواطنة ويرفض الافتئات على الحريات العامة.

ويتحمل المثقفون مسؤولية وطنية وإنسانية يمليها امتلاكهم الخبرة والوعي والمعرفة القادرة على مواجهة المواقف الجديدة، والكشف عن الحقائق الموضوعية، التي تؤهلهم لتحليل المشكلات وأسباب الأزمات، وافتراض الحلول المناسبة لها. وتجعلهم يبتعدون عن التزييف في القضايا التي يعاني منها مجتمعهم. والحرص على أن ينعكس في إنتاجهم الثقافة الواعية الإبداعية، وأن تتماهى فيها إرادة التغيير والعقلانية وقيم الحق والعدل والخير والجمال.

والمثقف الحقيقي يجعل المصلحة الوطنية أساس نشاطه، ويلتصق بهموم وطنه، ويناصر الحرية وكرامة الإنسان ، ويسخر إبداعه وأفكاره التنويرية لخدمة قضايا الشعب ومناصرتها، ويناهض الاستبداد والظلم وكل أشكال القهر والفساد والسلطة المعيبة، وينافح عن المظلومين، ويدعم مبادئ العدالة الاجتماعية وحرية الفكر والإبداع، ويجهر بقول الحقيقة دون تهيّب عسف السلطات. ولا بد للمثقف من اتخاذ موقف واضح وحازم من قضايا مجتمعه الأساسية، فالثقافة مسؤولية وموقف نقدي اتجاه الأحداث ومحاولة تصويبها. فلا يمكن للمثقف مثلاً أن ينأى بنفسه عن المجابهة مع الفكر الصهيوني والرجعي والإرهابي، لأنه بنتائج هذه المجابهة يرتبط وجود مجتمعنا ومصيره.

  تشكل بلادنا إحدى أهم حواضن التنوع الثقافي في العالم، وهذه سمة حضارية مميزة تتطلب من المثقفين إيجاد ودعم السبل لحماية أفضل العلاقات بين مكوناتها، فالتنوع والتعدد الثقافي البشري يخلق الازدهار، ويجعل الفكر أكثر غنى وإنسانية. والمعرفة تزيدنا شعوراً بقوتنا وإيماناً بعقلنا، وتصقل الروح النقدية التي تشكل محور التقدم والتجدد، ونصبح أكثر قدرة على الاحتجاج ضد الظلم والاستبداد، وكلما ازددنا معرفة ازددنا قدرة على الحوار، الحوار على قاعدة المختلف المتنوع، لا على قاعدة التماثل، فالثقافة تغنى بالحوار ، بينما تفقد قدرتها على الحياة المتطورة حين تتماثل بذاتها، وتخضع للنمطية الواحدة.

وأفضل سبيل للنجاح في هذه المهام هو اعتماد الحوار الجاد بين الآراء والأفكار طريقاً للوصول إلى الحقائق، وللكشف عن أسباب المشاكل وطرق معالجتها. وعلى المثقف المحاور استخدام المنطق العقلاني السليم لتوضيح قناعته والدفاع عنها. وعليه احترام حق الاختلاف والرأي الأخر، ومجابهة أفكار وممارسات الإقصاء والتهميش، فكل من يدعي من أهل الفكر والسياسة امتلاك الحقيقة دون غيره، ويعتمد ذاته حكماً، لا شك أنه وقع في الخطأ. ولكن الحوار يحتاج إلى مرجعية تستند إلى الوقائع والمبادئ. فهل يمكن اعتبار الدعوة للتفريط بالسيادة والحقوق الوطنية رأياً يحترم؟!. إنها الخيانة التي لا تحترم. وعلى المثقف الوطني التصدي لها وعدم مهادنتها.

الثقافة المتجددة

إن التاريخ حراك مستمر، وقوام حراكه التناقض. أما الثبات فهو نسبي، والحركة مطلقة، ولأن الأفكار هي انعكاس الواقع المادي الدائم الحركة، فيجب أن تكون في حركة دائمة أيضاً. وتؤسس للجديد من خلال الموقف النقدي للوضع القائم، ومراجعته وفقاً لمعطيات العلم الحديثة. واستشراف المستقبل وضروراته، ومن ثم اختبار الفكر بالوقائع والممارسة، ومهما كانت الفكرة جميلة تفتقد حضورها إذا لم تجد انعكاسها على المجتمع، فالممارسة هي مقياس جدية الأفكار.

وعلينا أن ندرك أن طريق التطور ليست صاعدة ومستقيمة على الدوام. لقد أصاب البعض الهلع أثر انهيار سلطة السوفييت، وانهارت منظومة أفكارهم وثقتهم بالجماهير، وانقلب البعض على مبادئهم الاشتراكية باتجاه الرأسمالية المتوحشة. ولو تماسك أولئك لأخذوا العبرة من التحولات الواسعة التي جرت في معظم بلدان القارة الأمريكية الجنوبية وغيرها، ومن معالم الأزمة الاقتصادية العميقة التي تربك النظام الرأسمالي. وفاتهم أن طريق التطور والتقدم وإن واجهته وقفات لن تمنع استمراريته وتقدمه. والفكر الماركسي بمنهجه المادي الجدلي التاريخي لا يزال الفكر الأقدر على قراءة الواقع وتحديد مشكلاته، ومعالجتها في مصلحة التحرر والتقدم والعدالة. ومن طبيعة هذا الفكر أن يتجدد مع التحولات والتطورات العلمية والاجتماعية. وهذا يفترض تطوير باب الاجتهاد لمواكبة الظروف المتجددة، وممارسة حوارات فكرية منفتحة حول المهام النضالية للمرحلة الحالية، فقيمة الأفكار تتحدد بنتائجها العملية.

الثقافة والتراث

إن الثقافة الوطنية النهضوية كما النضال استمرارية متجددة وبناء على القديم مع التجديد. ومن هذا المنطلق فإن العلاقة بين الماضي والحاضر علاقة تطور تاريخي مبنية على معرفة عصرية، ومستندة على استيعاب التراث في ضوء تاريخيته، أي علاقته بالبيئة الاجتماعية التي أنتجته. فلا تنكّر للتراث ورميه، واعتباره رجعياً. ولا اعتماده نموذجاً مثالياً ومتكاملاً يجب الرجوع إليه فقط. بل اعتماد منهج علمي في البحث والكشف عن كل ما هو جوهري وفاعل في تراثنا، وإحياء وتفعيل القابل للتفعيل منه، والبناء عليه وفق ظروف التنمية المعاصرة وحاجاتها، واستناداً إلى تطور مختلف العلوم والمعارف الحديثة، وركن الباقي جانباً ضمن التاريخ المنقضي. فلا عدمية تبخس الماضي وتتجاوزه، ولا ماضوية تعتمده كلياً وتتقوقع فيه، وتسد نوافذه على الثقافات الأخرى المعاصرة.

لقد أدى التضييق على نشاط القوى التقدمية اليسارية إلى إضعاف دورها في نشر الفكر العلماني، وأتاح للقوى السلفية ودعاتها التفرد بالساحة دون منافس فعال، فاتسع نطاق نفوذها في المجتمع مدعومة من قوى إقليمية غنية. وإضافة إلى الرقابة التي تمارسها الأجهزة الرسمية على نشر الفكر العلماني والإبداع الأدبي والفني، غدت تلك التيارات السلفية المتشددة تمارس حصاراً أشد بإصدارها فتاوى التكفير، والتهديد والإرهاب بحق هذا المفكر أو الكاتب أو ذاك من منطلقات دينية وطائفية ضيقة، وتهاجم أي اجتهاد عقلاني علماني متنور. وهذا يقتضي تضافر جهود ضخمة من القوى الوطنية والتقدمية والعلمانية ورجالات الفكر والثقافة والأدب والفنون والإبداع ومن الفعاليات الاجتماعية والقيام بعمل جاد تنويري عقلاني علماني واسع على عدة جبهات، ومنها مجابهة زيف الثقافة الليبرالية الجديدة الأمريكية المتوحشة ومظاهرها الاستهلاكية المبتذلة. وأيضاً لمجابهة الأفكار السلفية الظلامية التي تعمل عليها عشرات الفضائيات والمراكز ووسائل الاتصال على مدار الساعة. وكذلك لإزالة الأضرار النفسية وتشوهات الوعي التي لحقت بأقسام هامة من المجتمع خلال الأزمة التي استهدفت الدولة ومواطنيها. فالمعركة الثقافية لا تقل خطراً عن المجابهات الأخرى.

إن علمانية الدولة، وإعلاء شأن المواطنة، ونشر التعليم، والحرية الإعلامية، ومجابهة الفكر الإقصائي بالمزيد من الديمقراطية الثقافية والفكرية والسياسية، يخلق وعياً ثقافياً وطنياً قادراً على مجابهة التحديات.

العدد 1105 - 01/5/2024