من الصحافة العربية العدد 685

من الربيع العربي إلى الربيع النووي

من مؤتمر فيينا في 1815 الذي أعاد رسم خريطة النفوذ بين الدول الأوربية بعد حروب نابوليون، إلى اتفاق فيينا في 2015 بين إيران والدول الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن زائد ألمانيا، قرنان من التحولات الكبرى في مسار العلاقات الدولية للمنطقة العربية، أبرزها محطات ثلاث: الأولى، انهيار السلطنة العثمانية وقيام الدولة الوطنية بعد الحرب العالمية الأولى؛ الثانية، مرحلة الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية ونشوء دولة إسرائيل بعد حرب 1948؛ والثالثة، الربيع العربي الذي أنتج الفوضى، علّه يزهر أملاً جديداً قبل خريف عمر صانعيه.

ربيع من نوع آخر أطلقه اتفاق فيينا، النووي في الاسم، السياسي والاقتصادي في المضمون، وسيكون له تداعيات إقليمية، وإن كان الكلام السياسي عنه فيه الكثير من المبالغة، سلباً أو إيجاباً. يأتي الاتفاق في زمن الدولة الوطنية، فلا مساحات (مشاع) غير مشغولة، لا هوية لها ولا حدود. وعلى رغم تهاوي بعض الأنظمة والدول، إلا أن هذا الواقع سابق لاتفاق فيينا.

أما الشرخ المذهبي المتفاقم، فجذوره التاريخية والدينية تعود إلى ما قبل نشوء الدول التي وقّعت اتفاق فيينا وإلى ما قبل إيران الصفوية.

مسائل أخرى أخذت مداها قبل الاتفاق النووي: تصدّع النظام الإقليمي العربي، الاحتلال والتوسع الإسرائيلي، الانقسامات العربية، التطرف الديني والعنف المستشري. كل ذلك حصل قبل مساعي تطبيع علاقات إيران مع العالم وبمعزل عن سياسات الدول الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة ورئيسها الذي ربما أخذ خيار التفاوض مع إيران بعد أن يئس من التفاوض غير المجدي مع إسرائيل ومن الكلام المكرر للحلفاء العرب في مسائل تعني مجتمعاتهم قبل أن تُشغل بال الآخرين.

بعد فك العزلة الدولية عن إيران ستكون طهران بلا شك في موقع نفوذ متجدد، سياسياً واقتصادياً ومعنوياً. وإذا التزمت إيران تنفيذ الاتفاق وأثبتت أن استخدامها النووي هو لأغراض سلمية فستكون أول الرابحين، في المقابل ستكون إسرائيل أول الخاسرين، أقله ظرفياً. أما المتضررون فكثر، خصوصاً في منطقة الخليج العربي، لا سيما السعودية، بينما دول أخرى في مجلس التعاون الخليجي لم تكن في قطيعة كاملة مع طهران.

والسؤال: إلى أي مدى ستتمدد إيران في المنطقة بعدما وصل نفوذها قبل الاتفاق النووي إلى لبنان وفلسطين والعراق وسورية واليمن والبحرين؟ وماذا كانت ستفعل السعودية في ما لو لم يجري الاتفاق؟ ساحة النزاع الأكثر سخونة وصعوبة هي سورية حيث خطوط التماس متعددة ومتحركة على وقع المواجهات العسكرية المحتدمة، في الدول الأخرى، حيث لإيران ولغيرها من دول المنطقة نفوذ، الأوضاع مختلفة: في البحرين ثمة خطوط حمراء ليس من السهل تجاوزها، في اليمن التسوية غير ممكنة بلا السعودية وإيران، وفي فلسطين نزاع بين أهل البيت أنفسهم لا يقل حدة عن النزاع مع الاحتلال، وفي لبنان موازين قوى دقيقة لا يمكن التعامل معها على قاعدة الإلغاء أو الإقصاء.

في أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، بناء علاقات ثقة متبادلة بين إيران وشركائها الجدد يخضع لاعتبارات مرتبطة بحسن تنفيذ الاتفاق وبالتأييد له، خصوصاً من واشنطن وطهران، بعده تأتي ترجمة الثقة إلى أفعال لمصلحة الجهات المعنية، والاختبار الأول في هذا السياق التصدي الجدي للتنظيمات السلفية المتطرفة في العراق وسورية، هذا ليس بالأمر المستحيل إذا توافرت الإرادة لذلك، ولجميع الأطراف مبدئياً مصلحة في ذلك، ومنهم الآن تركيا بعد أن استهدفها داعش على رغم الدعم الذي قدمته للتنظيمات الجهادية المسلحة منذ 2011. أما الأزمات الأخرى فهي أكثر تعقيداً والخلافات حول مقاربتها ونتائجها لن يلغيها الاتفاق النووي: أزمة اليمن بعد (عاصفة الحزم) متعددة الجوانب والتسوية تخضع لاعتبارات لا يمكن تأمينها إلا بمشاركة الولايات المتحدة، وهذا مرتبط بمسار علاقات واشنطن مع طهران والرياض، وفي سورية النزاعات متداخلة والمصالح متناقضة، كما أن روسيا شريك أساسي في أي تسوية ممكنة.

في إسرائيل بازار التهويل والتهديد والوعيد والابتزاز لن يتوقف، خصوصاً مع انطلاق الحملات الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة، إسرائيل تعلم أن ما كُتب قد كتب، لذلك ستحاول تحسين شروطها للحصول على أفضل ما يمكن من (تعويض) بالسلاح الأمريكي المتطور والمال، وهي الدولة الإقليمية الوحيدة التي تملك سلاحاً نووياً منذ أكثر من نصف قرن. إسرائيل تراهن على رحيل أوباما وانتخاب رئيس يتعاطف مع طروحاتها ومستعد أن يخاصم طهران. إيران قادرة أن تعطل مناورات إسرائيل وابتزازها، لا سيما أن إسرائيل واقعياً ليست قيمة مضافة للحليف الأمريكي بالمقارنة مع إيران (المحيّدة) وحلفائها المقتدرين، أبرزهم تركيا والسعودية.

فريد الخازن

(السفير، 1/8/2015)

العدد 1105 - 01/5/2024