في يوم المرأة… ملامح من تاريخ الحركة النسوية في فلسطين قبل النكبة

تعد المشاركة السياسية واحدة من أهم مؤشرات ودلالات التنمية في أي مجتمع، إذ لا يمكن الحديث عن التنمية بمفهومها الشامل دون التطرق لموضوعة المشاركة السياسية، ودون التعرض لدور المرأة في هذه التنمية، وسعيها من أجل التأثير في خطط ومشروعات التنمية من خلال قنوات المشاركة السياسية. وفي المجتمع الفلسطيني الذي يتسم بالمحافظة، واحتفاء أقل بإمكانات النساء في ظل هيمنة ذكورية تستأثر بالنصيب الأكبر من فعاليات الحياة المختلفة، رغم أن المصادر التاريخية تشير إلى أن أول ظهور لنشاط سياسي نسوي في فلسطين كان عام 1893 عندما خرجت النساء لأول مرة في تظاهرة حاشدة احتجاجا على إنشاء أول مستوطنة يهودية في فلسطين.

وبمناسبة (اليوم العالمي للمرأة)، الذي يوافق الثامن من آذار/ مارس من كل عام، نسلط الأضواء على ملامح من تاريخ الحركة النسوية في فلسطين قبل عام النكبة ،1948 إذ يسجل التاريخ أنه منذ مطالع القرن العشرين نشطت المرأة الفلسطينية في إنشاء الجمعيات والتكتلات النسائية، وكان معظمها قد أخذ طابعاً اجتماعياً وشمل الريف والمدن. إلا أن المرأة في المدينة تفوقت على شقيقتها في الريف في ذلك. وكان لمدينة عكا السبق في إنشاء أولى الجمعيات الخيرية في فلسطين، فقد تأسست (جمعية إغاثة المسكين الأرثوذكسية) عام ،1903 وكانت تتألف من مجموعة من السيدات المثقفات اللواتي ينتمين إلى الطبقة المتعلمة والميسورة، وعلى رأسهن السيدة نبيهة ملكي منسي. غير أن هذه الجمعية توقفت عام 1916 بسبب الحرب العالمية الأولى. تلتها مدينة يافا إذ تأسست (جمعية عضد اليتيمات الأرثوذكسيات) عام ،1910 وكان من أهم أهدافها تأهيل الفتيات وتعليمهن، خصوصاً اليتيمات بغض النظر عن الديانة.

وبعد صدور (وعد بلفور) المشؤوم عام 1917الذي منحت فيه بريطانيا اليهود وعداً لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، بدأت أجندة العمل النسائي بالتحول من العمل الاجتماعي الصرف إلى مواكبة الأحداث السياسية والانخراط فيها. فخرجت أكثر من 200 امرأة في منطقة (مرج ابن عامر) شمال فلسطين بمظاهرة احتجاجاً على (الوعد) المشؤوم. بعد ذلك تأسست عدة جمعيات وتنظيمات نسائية سياسية علنية وسرية في معظم المدن والقرى كرد فعل على الأحداث السياسية المتلاحقة. وبدأت تبرز التنظيمات والتكتلات السياسية النسائية الفلسطينية، إلى جانب العشرات من الجمعيات الخيرية والثقافية والصحية. وكانت هذه تضم في عضويتها السيدات والفتيات المثقفات والمتعلمات والموظفات في حكومة (الانتداب البريطاني)، إلى جانب النساء الناشطات من المناطق الريفية. وفي هذه الفترة كانت جهود الحركة النسوية متجهة نحو الإصلاح الاجتماعي والتوعية السياسية للمرأة.

 

1921م.. أول إتحاد نسائي في القدس

ما إن انتهى عقد العشرينات حتى كانت معظم المدن قد أسست العشرات من الجمعيات وأسست فروعاً لها في معظم القرى والبلدات. وقد ارتبطت بعض الجمعيات بعدد من الأسماء اللامعة أمثال السيدات: زليخة الشهابي، وميليا السكاكيني، وكاترين سكسك، ونعمتي العلمي (من القدس)، وأديل عازر (من يافا)، ومريم عبد الغني والحاجة عندليب العمد، ومريم خليل، وساذج نصار (من حيفا)، ونبيهة منسى، ورقية الكرمي (من عكا). ووفقاً لما جاء في الموسوعة الفلسطينية، فقد تأسس أول اتحاد نسائي في القدس عام 1921 بقيادة زليخة الشهابي وميليا سكاكيني. وكانت المنتسبات للاتحاد النسائي من العائلات العريقة وزوجات الوجهاء. وأخذ الاتحاد على عاتقه مساعدة النساء المعوزات والنهوض بهن، ومنع استغلالهن في العمل، خصوصاً العمل في مصانع التبغ وغيره، إذ كانت المرأة تعمل ساعات طويلة مقابل أجور زهيدة.

وشهد منتصف عقد العشرينيات حدثاً تعليمياً هاماً كان هو الحدث الأبرز، لا في فلسطين وحدها، بل في المنطقة العربية كلها. إذ قامت السيدة نبيهه ناصر بإنشاء مدرسة (بير زيت) عام ،1924 وهي المدرسة التي تطورت حتى أصبحت كلية ثم جامعة، واستمرت حتى يومنا هذا، وتعرف حالياً باسم (جامعة بير زيت).

وفي 14 آب ،1929 قام اليهود بمظاهرة ضخمة في تل أبيب إحياء لذكرى تدمير الهيكل (وفقاً لمزاعمهم)، ثم قاموا في اليوم التالي بمظاهرة أخرى متوجهين إلى حائط البراق في القدس، وهو مايسمونه زوراً (حائط المبكى). وهناك رفعوا علم الكيان الصهيوني وأنشدوا نشيدهم القومي (هاتيكما). وقد استفز هذا التصرف الشعور الوطني الفلسطيني. وكان هذا الحدث هو شرارة ما عرف ب(ثورة البراق). وقد شاركت النساء في هذه الثورة بحمل السلاح والقتال، وكذلك بالإسعاف ونقل الجرحى. وقد سقطت – آنذاك – تسع شهيدات برصاص جيش الاحتلال البريطاني. وعلى الرغم من توقف الاشتباكات فإن هذه الأحداث فتحت باب الاحتجاجات والاجتماعات الوطنية في معظم المدن الفلسطينية، وبدأ صوت المرأة يتصاعد. فقد تنادت السيدات إلى عقد المؤتمر النسوي الأول في القدس عام 1929 شاركت فيه 300 سيدة. وقد أسفر المؤتمر عن جملة من القرارات الوطنية التاريخية، وانتخب فيه وفد من المجتمعات لمقابلة المندوب السامي البريطاني. ولدى عودة الوفد، انطلقت مظاهرة نسائية حاشدة جابت شوارع القدس وأظهرت فيها المرأة شجاعة كبيرة في التصدي للجنود البريطانيين. ورفعت المرأة العرائض وكتبت في الصحف. وكان هذا المؤتمر هو الخطوة الأولى لبدايات عمل المرأة ضمن أطر تنظيمية واضحة. بعد ذلك، أخذ الاتحاد النسائي على عاتقه تنظيم النشاط النسوي، وتوسيع المشاركة النضالية للمرأة، إضافة إلى مسؤوليتها الاجتماعية في مساعدة الجرحى وأسر الشهداء والمعتقلين.

كما شاركت المرأة الفلسطينية من خلال الاتحاد النسائي في المؤتمرات السياسية التي عقدت داخل فلسطين وخارجها لنصرة الشعب الفلسطيني.

 

تعددت أدوارهن والهدف واحد..

في ثورة ،1936 كان دور المرأة الريفية أكثر جرأة، فقد حملت السلاح وانخرطت بشكل فعال في صفوف الثورة وساهمت في الدفاع عن القرى الفلسطينية، كما حصل في قرية (البروة)، إذ كان للمرأة دور كبير إلى جانب الثوار في استرجاع هذه القرية بعد أن استولت عليها عصابات الصهاينة. كما قامت بنقل التموين والسلاح والرسائل والأخبار وتقديم الإسعافات الأولية للجرحى وجمع التبرعات وإخفاء الثوار ومراقبة الطرق. وقامت ببطولات رائعة لم يدون الكثير منها في كتب التاريخ. وسقطت أول شهيدة مقاتلة فلسطينية في معركة (وادي عزون) عام ،1936 وهي الشهيدة فاطمة غزال.

وأصدر الاتحاد النسائي بياناً يدعو فيه إلى الصمود في الإضراب الذي دعت إليه القوى الوطنية والذي عم فلسطين، واستمر لمدة ستة أشهر، وهو أطول إضراب في التاريخ. وساهمت المرأة فيه مساهمة فاعلة إذ كانت تقوم بتوزيع المؤن والمستلزمات على العائلات ليلاً وبسريًة تامة، وذلك لدعم الصمود في الإضراب، كما دعت إلى التضامن بين جميع فئات الشعب لاستمرار الصمود في الإضراب. وعقدت الفعاليات النسائية مؤتمراً في القدس بتاريخ 6/5/ 1936 حضرته أكثر من 400 سيدة، وذلك للاحتجاج على سياسة بريطانيا المنحازة لليهود. ثم تلا ذلك اجتماع آخر في مدينة يافا بتاريخ 11/5/ 1936 لبحث الوضع في فلسطين، ومن توصياته الدعوة إلى الاستمرار في الإضراب، ومقاطعة البضائع اليهودية.

كما شاركت المرأة الفلسطينية في المؤتمرات السياسية العربية التي عقدت لنصرة فلسطين، من ذلك مشاركتها في المؤتمر الذي دعت إليه السيدة هدى شعراوي. وقد عقد ذلك في القاهرة عام ،1938 وكان وفد فلسطين مؤلفاً من 27 سيدة، وحصلت المرأة الفلسطينية فيه على موقع (رئيس جلسة).

وفي فترة الأربعينيات، نشطت المرأة الفلسطينية بجميع المجالات الاجتماعية منها والثقافية وكذلك العسكرية. فقد تأسست (جمعية زهرة الأقحوان) التي قامت بتأسيسها كل من مهيبة وعربية خورشيد عام 1947 في يافا. وقد بدأت عملها كجمعية خيرية، وأصبح اسمها (نادي النساء العربيات)، ثم تحولت إلى منظمة ذات طابع عسكري بعد حادث مقتل طفل بريء أمام عيني مؤسسة الجمعية مهيبة خورشيد. تلا ذلك تأسيس المزيد من الجمعيات مثل (جمعية التضامن النسائي).

وفي عام النكبة (1948)، شاركت المرأة بالقتال وإسعاف الجرحى ونقل المصابين وتزويد المقاتلين بالذخيرة والطعام والماء، واستشهد العديد من النساء. أبرزهن المناضلة حياة البلبيسي، التي استشهدت وهي تسعف الجرحى أثناء مذبحة دير ياسين، إذ أطلقت عليها النار مباشرة رغم أنها كانت تضع إشارة (الصليب الأحمر) على ذراعها. ومنذ عام النكبة أبدت المرأة الفلسطينية صلابة في مواجهة واقع النكبة المرير في الشتات، من أجل الحفاظ على الأسرة من الضياع، والنضال المستمر حتى تحرير الأرض والإنسان الفلسطيني.

العدد 1105 - 01/5/2024