هل تكون بيلاروسيا الهدف الثاني للغرب بعد أوكرانيا؟!

دَفْقٌ كبير من الدبلوماسيين الغربيين ومن يرافقهم من المنظمات الحكومية والمؤسسات الدولية يتوافدون إلى بيلاروسيا، لتكرار ما سبق أن فعلوه في أوكرانيا ونجحوا فيه عبر إخراجها من الفلك الروسي.. والسؤال: هل تكون بيلاروسيا هي الدولة الثانية على طريق أوكرانيا؟!

بداية لابد من التذكير بمعلومة هامة وهي أن الرئيس الحالي لبيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو كان النائب الوحيد في البرلمان البيلاروسي الذي صوّت ضد انفصال بلاده عن الاتحاد السوفييتي السابق غداة انهيار المعسكر الاشتراكي. وبعد أن أصبح رئيساً منتخباً لبيلاروسيا، حافظ على أفضل العلاقات مع روسيا الاتحادية، وفاخر بأنه تمكّن من الحفاظ على الاستقرار في عملية انتقالية سلسة من الشيوعية إلى الليبرالية، على عكس روسيا التي تخبطت في حبائل هذا الانتقال في عهد الرئيس بوريس يلتسين.

حاول لوكاشينكو إقامة حالة من التوازن ما بين الغرب وروسيا في مجال سياسته الخارجية، مع الاقتراب أكثر من روسيا، لأنها تركته مطلق اليد في سياساته الداخلية، على عكس الغرب الذي يستخدم شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية وغيرها للتدخل في شؤون الدول الأخرى.

وعندما حدثت الأزمة الأوكرانية التي اختلقها الغرب وغذاها بهدف محاصرة روسيا، أضفت هذه الأزمة المزيد من الأهمية الجيوبوليتيكة على بيلاروسيا، سواء بالنسبة لروسيا أو للدول الغربية.

والجدير بالذكر هنا أن دول الاتحاد الأوربي تستخدم بيلاروسيا لتهريب منتجاتها الغذائية إلى روسيا التي قاطعتها كرد فعل على العقوبات الاقتصادية الغربية ضدها.

يقول عدد من المحللين السياسيين بأن علاقة الرئيس لوكاشينكو بموسكو ليست علاقة تحالف وقيم مشتركة بقدر ما هي علاقة مصالح متغيرة، بدليل أنه أعلن في شهر حزيران الماضي أن انسحابه من (الاتحاد الأوراسي) احتمال وارد، وهو اتحاد مازال طري العود، إلا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واثق من نفسه ومن بلاده ومطمئن بأنه يمتلك أوراقاً كثيرة يستخدمها ضد بيلاروسيا إذا ما فكرت بأن تحذو حذو أوكرانيا وتتجه في سياستها باتجاه الغرب وتعادي روسيا.

ومن أهم هذه الأوراق: النفط والغاز والجمارك والضغوط السياسية وغيرها، أما الاتحاد الأوربي فإنه يحاول إغراء الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو خاصة في المجال الاقتصادي، وقد ظن لوكاشينكو في زيارة الرئيس الفرنسي هولاند والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لبلاده، أن هاتين الزيارتين ستدخلانه في نادي (النخبة)، وأن مفاوضات مينسك حول الأزمة الأوكرانية ستدخل بلاده في منظومة الدول المهمة في الساحة الدولية. من جهة أخرى فإن البابا فرنسيس الذي لعب دوراً كبيراً في تحقيق التقارب بين واشنطن وهافانا قد يلعب مثل هذا الدور بين أوربا وبيلاروسيا، حسبما أعلنت مصادر في الفاتيكان مؤخراً، هذا مع العلم بأن البولونيين الكاثوليك، وهم أقلية فاعلة سياسياً في بيلاروسيا، يتمسكون بانتمائهم الديني، ويتطلعون إلى دعم الفاتيكان لترميم العلاقات وتقويتها وتمتين الجسور بين بلادهم وأوربا حسب اعتقادهم.

كذلك ذكرت مصادر غربية مطلعة- كما سربت بعض الصحف الغربية- أن لوكاشينكو يتطلع بشغف إلى انضمام واشنطن إلى مفوضات (مينسك) بشأن أوكرانيا، إذ لم تشترك فيها حتى الآن، لعل هذا الاشتراك يشكل فرصة لتطبيع علاقاته مع الولايات المتحدة.

ويرى محللون آخرون أن مشكلة لوكاشينكو تكمن في أنه إذا بعث بإشارات ورسائل تقارب واضحة إلى واشنطن من دون أن تبادله الولايات المتحدة بالمثل وتقدم له مكافآت ملموسة، فإنه يخاطر عندئذ بموقعه في الاتحادين الجمركي والأوراسي في الوقت الذي تقرع فيه طبول حرب باردة جديدة.

في مطلع شهر حزيران الماضي من هذا العام، قال وزير الخارجية البيلاروسي عن موضوع تطبيع العلاقات مع الاتحاد الأوربي، إنه يسجل المزيد من التقدم منذ عام.. وتعتقد مينسك بأن انضمامها إلى أوربا سيحقق لها الكثير من الفوائد.. ولكن في الوقت نفسه هناك من نصح الرئيس لوكاشينكو بأنه ليس من اللائق تطبيع علاقاته تطبيعاً كاملاً مع دول الاتحاد الأوربي في وقت تنخرط فيه في حرب باردة ضد حليفه الروسي الذي لن يسكت عن ذلك.. علاوة على أن المكاسب على المدى القريب قد تنقلب إلى خسائر على المدى الأبعد.. لماذا؟ لأن حلف شمال الأطلسي هو الذي سيحقق مكاسب استراتيجية مهمة في الوقت الذي لا يملك فيه ما يكافئ به بيلاروسيا، نظراً للأزمة الاقتصادية التي تضرب الدول الأوربية، علماً بأنه بالمقارنة مع دول أوربا الشرقية، تمتلك بيلاروسيا اقتصاداً مستقراً يتطلع الأوربيون للشراكة معه.. لكن الرئيس لوكاشينكو لا يهمه فقط ازدهار بلاده، بقدر ما يغريه أن يصبح هو شخصياً زعيماً مرموقاً في الخارج، والأوربيون كشفوا نزوعه الشخصي هذا، وبالتالي فهم يلعبون على هذه (الأنا) منذ بعض الوقت رغم أنهم يصفون بيلاروسيا بأنها الديكتاتورية الأخيرة المتبقية في أوربا على حد زعمهم.

باختصار يمكن القول بأن الغرب بزعامة أمريكا لم ولن يتوانى عن محاولات التدخل في شؤون الشعوب والدول ليجعلها دائماً تابعة له ومرتهنة لإرادته ومصالحه تحت ستار شعارات براقة، مثل المحافظة على الحرية ونشر الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان وما شابه ذلك، في حين أن الهدف لهذا الغرب تحقيق مصالحه قبل كل شيء ومصالح حلفائه.. من جهة أخرى يتعامل الغرب مع قادة الدول من خلال عدة عوامل منها العامل السيكولوجي، وهذا ما تركز عليه الدوائر الغربية في تعاطيها مع لوكاشينكو في بيلاروسيا، لأنه كان يعتبر نفسه أهم من الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، بل رادوته أحلام بأن يصبح زعيماً على كل منطقة الجمهوريات السوفييتية السابقة بعد انهيار جدار برلين. لكن وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الكرملين في عام 2000 أيقظه من هذا الحلم.

إذاً بيلاروسيا ليست بمنأى عن ثورة ملونة يدبرها الغرب كما حصل في أوكرانيا منذ عامين، يتسلل مقاتلوها من أوكرانيا وبولونيا ليعيثوا فيها قتلاً وتخريباً وفساداً تنفيذاً لأوامر أسيادهم في واشنطن والعواصم الغربية الحليفة لها.

وإذا كان لوكاشينكو حريصاً على استقرار دولته وأمن شعبه وحضارته، فما عليه إلا أن يضع أحلامه الرومانسية الشخصية بالزعامة جانباً، وأن يعمل على تمتين علاقاته مع الرئيس بوتين الذي برهن بالقول والعمل أنه الزعيم الذي يعمل لمصلحة بلاده، وفي الوقت نفسه لمصلحة العالم أجمع من خلال مساعيه لأن يكون هذا العالم متوازناً ومستقراً وبعيداً عن هيمنة القطب الواحد.

العدد 1105 - 01/5/2024