احتمالات النجاح والفشل

شكلت الأزمة السورية المدخل، للقوى الإقليمية والدولية، لإعادة بناء النظام العالمي الجديد ورسم خريطة جديدة لمنطقة الشرق الأوسط بما يتوافق مع مخططاتها ومصالحها. الأمر الذي أدى إلى نشوب صراع محاور حاد منع حتى الآن من التوصل إلى اتفاق يمهد السبيل إلى حل هذه الأزمة بالوسائل الدبلوماسية، وينذر في الوقت نفسه بإدخال المنطقة برمتها في غياهب المجهول.

ولأن الإنسان محكوم بالأمل ويتطلع دوماً إلى غد أفضل ومستقبل أجمل، دأب المواطن السوري في كل مرة ينعقد فيها مؤتمر دولي حول الأزمة السورية إلى التفاؤل بأن مختلف الفرقاء السوريين سيتوصلون إلى قناعة بأن الحل السياسي للأزمة هو الحل الأمثل، بعد أن اختلطت  أوراق اللعب في الميدان لكثرة جبهات القتال وارتباطها بجهات إقليمية تحاول فرض أمر واقع جديد على الجغرافيا السورية، وتعالي نبرات الاحتكام إلى السلاح من دون الالتفات إلى كوارث التي حلت بالبلاد وبهذا المواطن سواء كان لاجئاً أم نازحاً أم مقيماً في مسكنه.

هذا الأمر فرض نفسه مع بدء العد العكسي لمؤتمر (موسكو 1) الذي قد يؤسس، من خلال مجموعة جلسات حوارية بين بعض تيارات المعارضة السورية ووفد رسمي يمثل الجمهورية العربية السورية وسلطتها الشرعية، الأساس بين الطرفين لبناء حلول سياسية تتضمن التوافق على رؤية موحدة تشمل العمل على ملفين أساسيين، الأول: مكافحة الإرهاب. والثاني: استكمال عملية الإصلاح السياسي التي بدأتها الحكومة السورية منذ عام 2011 ولا تزال مستمرة حتى هذا اليوم. في الوقت نفسه، بدأت دول إقليمية السعي لوضع العصي بدواليب المساعي الروسية، لتعطيلها أو على الأقل إجهاض تأثيرات هذا المؤتمر على مسار الحرب المفروضة على الدولة السورية.

فروسيا وإيران تخافان من أن يتيح استمرار الأزمة السورية المجال للحركات الإرهابية للقفز داخل حدودهما. إذ إن (داعش) أصبحت مجاورة لإيران، كما أنها تحاذي أقاليم القوقاز الروسية. وبلدان الجوار وسائر الدول العربية الأخرى تضعفها الأزمة السورية وترخي بثقلها عليها اقتصادياً ومالياً وأمنياً واجتماعياً وسياسياً، وبعضها مهدد بانتقال أعمال العنف إلى أرضه. وتخشى بلدان الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية من موجة هجرة معاكسة للإرهاب إلى أراضيهما. الأمر الذي جعل جميع هذه الدول تشعر بضرورة السعي لحل الأزمة السورية، بشرط أن يكون الحل مناسباً لها، وهذا يشجع على التفاؤل بإمكانية تحقيق تسوية سلمية تضمن الحد الأدنى من الاستقرار في سورية والمنطقة.

موسكو التي تعي كل هذه العثرات والعراقيل الموضوعة على طريق حل الأزمة السورية بالطرق الدبلوماسية لم تبنِ قصوراً في الهواء وتمنحها للمواطن السوري الذي بدأ يئن من ثقل الأزمة وتداعياتها عليه. بل إن السيد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خفض من سقف التوقعات، قائلاً إنه يهدف إلى تجاوز الأخطاء التي وقعت في مؤتمر(جنيف 2)، التي كان أبرزها (تغييب وتجاهل أطراف كثيرة من المعارضة السورية وتوجيه الدعوة إلى طرف واحد مقره في إسطنبول)، منبهاً في الوقت نفسه من (خطأ ثان) أربك مسيرة جنيف، وجعلها عاجزة عن الخروج بنتائج عملية، تمثل بـ (تحويل المؤتمر إلى استعراض سياسي وإعلامي بدلاً من توجيه حوار معمق ومسؤول حول القضايا المطروحة).

أما واشنطن التي دعمت جهود عقد مؤتمر (موسكو 1)، فهي سعيدة للغاية لأنها حتى الآن تبدو الرابح الأكبر. فهي سعيدة برؤية خصمها الإقليمي الأول، إيران، تتلظى بالنار السورية وتستنزف مواردها المالية ورصيدها الإيديولوجي والسياسي. وهي تفرك يديها بفرح وحبور لمشاهدة خصمها الدولي الأول، روسيا، تتخبط خبط عشواء في بلاد الشام، في الوقت الذي يتآكل مشروعها الإستراتيجي الخاص بإعادة إحياء الإمبراطورية الروسية (عبر مشروع الاتحاد الأوراسي) في أوكرانيا ويتضعضع في كازاخستان وروسيا البيضاء، حسب وجهة نظر الإدارة الأمريكية. بينما تبتسم بسخرية من المأزق الذي وقع فيه حليفها المتمرد أردوغان بعد أن حاول شق عصا الطاعة على سيده وولي نعمته الجالس في البيت الأبيض.

إن الدعوة إلى الحل السياسي للأزمة السورية ودعمه جاءت من قراءة متأنية وعميقة للواقع السوري، وبعد أن باتت غالبية السوريين تدرك أن مصالحها ومستقبلها قد تضيع في غياهب ودهاليز لعبة الأمم، وخصوصاً أنهم تحوّلوا إلى وقود وحطب محرقة للصراعات الدولية. والحل السياسي، ولو بالحد الأدنى في هذه المرحلة، هو الكفيل بأن  يقبضوا السوريون على زمام أمرهم ويبدؤوا بالحوار الجاد والشفاف والصريح فيما بينهم لتقرير مصيرهم، ويكون المدخل كي يتوحدوا في مواجهة الهجمة الشرسة التي تشنها الرجعية العربية والإمبريالية العالمية الهادفة إلى نهب الثروات الوطنية، والمنطلق للتصدي لسياسات الإفقار الممنهجة التي يتعرض لها المواطن السوري، والسد المنيع ضد المجموعات الإرهابية التي تُعتبر إحدى أدوات المشروع الرأسمالي لتدمير المنطقة وتفتيت نسيجها الاجتماعي وإدخال سكانها في أتون صراع مجهول العواقب.

العدد 1107 - 22/5/2024