التسعير الإداري بأدوات غير فاسدة… هو الحد الأدنى من الوفاء للشرفاء وللدماء!

التطبيل والتزوير والتصريحات والتنظيرات باءت للأسف بفشل ذريع، ليس بسبب المعيقات البنيوية، ولكن لعقلية واضعي العصي بالعجلات التي ما زالت تلعب دوراً نافذاً. ما ينقصنا منذ سنوات هو النية والإرادة، ولما وصل بعض من كان يطالب بهما فُقدتا من برنامج تنفيذه، وما أفاضت به الأيام السابقة والأسبق كان هو التنظير الكبير الفارغ الفعل قوي الصدى.

فلتان الأسعار لم يكن نتيجة لظروف البلد وأزمته التي لا بد أن يكون لها أثر، ولكنها كانت نتيجة لتجار الأزمة وإرهابيي الاقتصاد، واستمرارية النهب والفساد. إنها أزمة أخلاق وضمير ووطنية.

أكيد في الأزمات تكون الظروف استثنائية، وكذلك القرارات تكون استثنائية، وقد يضطر أن يؤخذ بالبعد غير الاقتصادي للقرار.. وقد يكون التصريح بالأرقام الحقيقية غير واجب الآن، ولا يسمى تضليلاً كما ضللت الحكومات السابقة للوصول إلى ما وصلنا له. ولكن العيب والعار للبعض الذي جعل كلمة الأزمة ستاراً يختبئ وراءه، لزيادة نهبه وسلبه على حساب الدماء، وعلى حساب الوطن والمواطن، وعلى حساب شرف الدماء وطهارة التراب.

كلنا يعلم أن الإرهاب الاقتصادي لا يقل خطورة عن الإرهاب الدموي، وقد يفوقه بالتأثير وبالانتهازية، لأنه يعتمد على أسلوب الخلسة وانشغال الشرفاء في حماية الوطن، الرصاصة قد تقتل شخصاً أو بضعة أشخاص، أما الفقر والجوع والبطالة فقد تقتل وطناً.

ما لمسناه من فوضى الأسعار وما رافقها أو سبقها أو تكامل معها من فوضى سعر الليرة أمام الدولار، لم يكن نتيجة طبيعية، وإنما هو شيء مفتعل إما عن جهل أو/وقلة معرفة، أو عن سابق إصرار على أن يستمر النهج الاقتصادي بشكل أسوأ وأكثر تحيزاً لما أراده النائب الاقتصادي الأسبق. هذا النهج الذي هيأ البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، من فقر وبطالة وهجرة داخلية، لتصبح كومة قش، وأن يستمر الوضع بشكل أسوأ بعشرات المرات مع تغيير الأدوات. كيف تحافظ الأسعار على توازنها في ظل رفع أسعار المحروقات أضعافاً مضاعفة؟ المازوت 40ل.س، بعدما كان هذا المنبر من الأكثر دفاعاً عن ضبابية مصطلح (رفع الدعم) ليصبح 15 ل.س بعد أن وصل إلى 25 ل.س، وكلنا يعرف ما يسببه ارتفاع المازوت على كل مفاصل الحياة الاقتصادية والاجتماعية والبنزين إلى 100 ل.س مع ترافق احتكار استيراده بعدة أشخاص وتراجع دور الدولة ومصافيها، وعرقلة إقامة المصافي سابقاً بشكل مبطن وأحياناً علنياً؟ أي أسعار متوازنة وتسعير الأسمنت ب17 ل.س مع ظهور معامل خاصة أو تشاركية ظالمة لمعامل عامة؟ أي توازن أسعار في ظل إرادة بشرية دمرت المعامل وأوقفتها، فيما سابقاً لم تستطع إرادة البعض وسوء سلوكها خصخصة هذه المعامل؟ وسبحان الله! توافق الإرادتين أي تخفيض أسعار وتثبيتها، ورفع القوة الشرائية للمواطن والتحكم بالتضخم وضبطه في ظل رفع الرسوم والضرائب وخاصة التعليمية وغيرها، ورفع أسعار الدواء بشكل متكرر، أي هذا الرفع نوع من التسعير الإداري؟!

من يريد أن يعيد لليرة صحتها وألقها، وللبلاد عافيتها، وللمواطن مناعته لن يقبل أن تدار الأمور الاقتصادية بعقلية حيادية اتجاه من تسبب بما وصلنا إليه ونهجه!

إن التسعير الإداري ليس غاية كما يظن البعض، وإنما هو وسيلة لتأمين السلع والخدمات للمواطنين بما يناسب مقدرتهم، ووسيلة لخفض التضخم ومحاربة الاحتكار وضبط الأسعار وحسن إدارة الحياة الاقتصادية، ووسيلة لمواجهة الإرهاب الاقتصادي، وإعادة الروح لليرة السورية، ومكافأة من تحمّل ووقف مع الوطن من الشرفاء والفقراء، ووسيلة للتخفيف من معاناة السوريين محليين ولاجئين لتخف معاناة الوطن.

 إن التسعير الإداري لمن يظنه أياً كان هو حجر الزاوية لانتصار عقلية الدولة السورية ومؤسساتها، وفرض قوتها على قوى إضعافها وتهشيمها والسيطرة عليها وتطبيق مقررات مؤتمر واشنطن أو أسوأ منها علماً أن ما كان يجري لم يكن بضغط من وضع هذه المقررات وإنما لبعض الأشخاص الذين اغتنوا وزادوا غنى من قرارات كهذه، هذه القوى ترفض أن تكون المؤسسات الحكومية هي القائدة والأقوى لسورية ولتنميتها وفق القانون ووفق الأولويات، ووفق ما يعطي الدماء التي سالت جزءاً من دينها علينا.

التسعير الإداري الصحيح يفترض أن يكون تتويجاً لانتصار النهج السوري الواقعي العقلاني على نهج (دعه يعمل دعه يمر)، على نهج (السوق تنظم نفسها) في دول يستحيل أن تعيش بنوافذ مفتوحة للملأ من دون حماية، ولا يمكن أن تعيش بانغلاق تام، النهج الذي فرّغ نهج اقتصاد السوق الاجتماعي من محتواه، فلم يقوموا إلا بانتهاج اقتصاد السوء للبلد وللمجتمع!

إن التسعير الإداري، إن وجدت النية والإرادة، هو علاج شافٍ ولكن ليس بأدوات فاسدة كوزارة حماية المستهلك التي أنشئت لتهيئة الأجواء لهذا الدور، ولكنها عملت عكس ما رسم لها وكانت ضد المستهلك، ولم يكن لها أي تأثير إيجابي وإنما العكس. كيف يمكن لأدوات تعودت على الرشا والابتزاز أن تضبط الأسعار، في وقت زادت فيه إمكانية الاستفادة ولو على حساب الشعب والدماء؟ من يريد العمل عليه أن يغير الأدوات لا  القبعات، فينقلها من مركز إلى آخر لتستمر العقلية وإن تغير العقل، ولا نقل من امتهن الفساد بين المؤسسات ليستمر بفساده وإفساده. وكذلك لم تعط مؤسسات التدخل الايجابي كامل الظروف والشروط المفعّلة لدورها بما يناسب الملقى عليها، وإن أعطيت جزءاً عُرقل بدواليب المتربصين، فهناك استغراب في بعض الأوقات من عرض سلع أغلى من السوق لتشعل الأسعار بدلاً من أن تخفضها. واستمرت عقلية الربح هي العنوان، على الرغم من أهمية استخدام الدعم واستعمال البطاقات بأسعار مخفضة، وقصة الفروج مثيرة للاستغراب وكيف أنزل للأسواق بضعف ما اقترح، مع العلم أن الدولار قد هبط لأكثر من النصف عند الطرح، واستمر سعر هذه المادة الأساسية بارتفاع عنيف واستمرت مادة الفروج واللحوم وما ينجم عنه حلماً للسوريين الذين كانوا يتغنون برخص الأسعار على مستوى العالم، عندما لم يدخل فرض نهج السوق بالقوة الوقحة، على مبدأ (تكلموا مثلما تريدون ونحن نفعل ما نريد)! كل هذه السياسات المشكوك بها وبفائدتها ترافقت بسياسة مخيفة للدولار، ظاهرها السيطرة عليه وفعلها إضعاف الليرة السورية بقوانين تضعف الليرة ولا توازنها، حتى تدخلت الجهات المختصة وضبطت مراكز الصرافة، أي مراكز رفع السعر، وصادرت وأغلقت ما كان محمياً من قبل من يتحفنا بلقاءات وخطابات تدلل على ما يكمن خلفها. الدولار، لولا تدخل من لا يفهم بالاقتصاد لم يكن ليهبط، علماً أن الانحدار رُسم له بسهولة، ولكن هناك من يعمل عكس ذلك، وآخر ارتفاع هو الدليل، ففي ظل هبوط الدولار، رُفع سعر الدولار التصديري بمقدار 10 ليرات لتظهر الخلخلة ويعود إلى الجنون، وكذلك تدخلت هذه الجهات في التخفيف من أزمات الخبز والغاز، وكأن الأسعار والدولار لا يمكن لهما الاستقرار من دون تدخل هؤلاء، لوجود معرقلين، والسؤال: ما ذنب هذا الشعب والبلد بنوايا الخبيثين؟ ولماذا أصحاب الأموال والنوايا السوداء لم يحسبوا حساب أن هذا الوطن ملك للكل، وأنه سيعود ويقف بقوة بهمة الشرفاء؟ وماذا سيكون مصيرهم بعد أن زادوا فسادهم فساداً، دون تعميم. التسعير الإداري علاج ومكافأة للدماء وللضمير ولمن تناسى الجراح، لو توفرت النية والإرادة الصادقة، ونقول لمن يتحجج الحجج الواهية: إن  أغلب الشروط متوفرة ولكن العمل هو الأساس، فكم من تبرير لتخسير القطاع العام بالعمالة الفائضة! وكم من كفاءات متروكة للزوايا يمكن الاستعانة بهم في رفد وزارة حماية المستهلك ومؤسسات الضبط والمراقبة والتدخل!

إن التسعير الإداري هو تكريس لقوة مؤسسات الدولة في ظل مؤسسات تسيّرها قوانين ناظمة مُجْمَع على وجودها، وفي ظل استثمار الكفاءات كقيادة رشيدة لإمكانات الدولة، في ظل عدم تغييب أي قوة وعدم تغليب أي كان على قوة الدولة، وهو رد جزء من الدين للدماء الطاهرة النقية التي سالت بسوريتنا، وهو ضرورة ملحة في الفترة القادمة لإعادة هيبة الدولة والمؤسسات، وذلك في ظل فشل سياسة (دعه يعمل دعه يمر) وفي ظل فشل مصطلح (السوق تنظم نفسها) في ظل وجود سوق مشوهة البنى في منطقتنا، على خلاف الدول المتطورة الضابطة لتشكّل بناها، وفي ظل عودة الأرقام المضللة للظهور، بلباس مؤسسي دولي ممّن ضللها، ليمرر برنامجه سابقاً، وذلك لجعل إعادة الإعمار تأخذ الشكل الدولي، ويجعل أبواباً مختلفة جديدة للتدخل بشؤوننا، وأبرزها إعادة الإعمار والبناء التي تحتاج إلى كل الجهود العامة والخاصة، وتكون الأولوية لشرفاء الوطن.

التسعير الإداري حجر الزاوية لمستقبل سورية وردّ الدَّين لشرفائها ودمائها!

العدد 1105 - 01/5/2024