أثر العنف والنزاعات المسلحة على الأطفال

سنوات عشر مضت على المقالة التي كتبتُها بعنوان (أثر العنف الإسرائيلي على الطفل الفلسطيني)، نقلتُ فيها واقع الأطفال الفلسطينيين في ظل الاحتلال الصهيوني وممارساته القمعية ضد أبناء شعبنا، وبضمنهم الأطفال الذين اضطروا لنقش دورهم على صفحات التاريخ بحروف من ذهب، نقشت عصر الطفل الفلسطيني الذي أُرغم على التصدي والدفاع عن وجوده ووجود شعبه في الانتفاضة الثانية، هذا الطفل الذي بهر العالم وهز ضمير بعض الحكومات والشعوب التي صرخت من أجل سعادته ليعيش بحرية وسلام، ويتمتع بطفولة سعيدة بعيدة عن العنف والإرهاب (كما أطفال البشرية جمعاء). هذه الصرخات لمسناها في مختلف المحافل الدولية ووسائل الإعلام العربية والغربية التي نقلت وقائع الأحداث بالصوت والصورة بعين المصوّرة (الكاميرا) الصادقة التي لاتزييف فيها، ورآها العالم في سائر أصقاع الأرض وتردد صداها، لكنه ضاع بالفضاء لأن القرار بيد أصدقاءالحركة الصهيونية! ولم يأخذ الأطفال الفلسطينيون حقهم في الحرية والوجود، فأبعد كثير منهم قسراً عن مقاعد الدراسة، كما استشهد العشرات واعتقل المئات دون مراعاة لقوانين الشرعية الدولية والهيئات المعنية بالطفل وعلى رأسها اليونيسيف.

ركّزتُ على الأسباب الموجبة لانخراط الأطفال بالانتفاضة، خاصة بعد المداهمات الوحشية واستهداف الأهل بقتل الوالد أو اعتقال الأخ وبقر بطن الوالدة الحامل، وتعذيب الأخت وإبعاد الجار، وهدم المنزل أو تفجيره، وتحويل المدارس لثكنات عسكرية إثر اعتقال الكادر التدريسي، وقطع أشجار الزيتون و و و… كل هذه الأمور عايشها الطفل الفلسطيني ولامسها على أرض الواقع، إضافة إلى ما شاهده بالعين على الفضائيات التي كانت تنقل الأحداث مباشرة، فانغرست المشاهد بذاكرته الغضّة التي ولّدت لديه نفسية جديدة وبصمت عليه آثاراً وطنية وعاطفية وتربوية واجتماعية ولغوية وأخلاقية ومسلكية جديدة، حوّلت المخزون إلى غضب عارم على الاحتلال، فتفاعل مع الحدث الثوري لشعبه باعتباره جزءاً هاماً منه. فهو بالتزامن مع ما رآه وعايشه فلسطينياً تابع الممارسات الإرهابية الأمريكية ضد الشعب العراقي واستهداف الأطفال خاصة، كل هذا عكسه المسح الذي قدّم نتائجه الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني /رام الله – تشرين الثاني 2001. إذ إن معدّل الساعات اليومية التي يقضيها الأطفال (6-17سنة) في مشاهدة التلفزيون ارتفع بنسبة 4%خلال الانتفاضة عمّا قبلها، وكذلك الاستماع للراديو ارتفع بمعدل 36%، وكان لهذه المتابعة تأثير كبير عليهم نفسياً وسلوكياً تجلى بالنتائج التالية:

98% من الأسر

ظهر على أحد أفرادها علامات الحزن.

95% من الأسر

ظهر على أحد أفرادها علامات الغضب.

94% أحسوا بعدم الأمان.

89% أحسوا بالإحباط.

80% تولّدت لديهم رغبة في الانتقام.

هذه المشاعر ترجمت عند الفئة العمرية الأصغر بأنماط مختلفة تمثّلت بالتوتّر، الصراخ، البكاء، فقدان الشهية، الكوابيس أثناء النوم، القلق وصعوبة النوم، الخوف من العتمة، زيادة التمسك بالأم خاصة مع غياب الأب، ضرب الأقران، الرعب من الأصوات المفاجئة، التبوّل اللاإرادي (السلس البولي)، العزلة وتجنب الناس خاصة في حال الإصابة والإعاقة،الميل للألعاب العنيفة، اختيار السيف والمسدّس والرشاش والدبابة والطائرة للعب بها.

ماسبق يرافقه انتشار بعض الأمراض لعدم توفر الأدوية اللازمة للعلاج، والاكتظاظ السكاني نتيجة التهجير بعد دمار البيوت والعيش في الخيام أو المدارس. لاأعياد، لافرحة، ولاحلوى أو ألعاب تداعب خيال الطفل الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال، مما اضطره لأن يكبر قبل الأوان ويخلق من الموت الحياة! فقلب بذلك الموازين وألهب الأرض تحت أقدام المحتلين، ورسم خريطة الوطن التي مازال ينظر إليها أطفال اللجوء والشتات بانتظار العودة. هؤلاء الأطفال أصابتهم عدوى الغضب المشوب بالحزن والشعور بعدم الأمان، لرؤية إخوة لهم يتعرضون لمحاولة الإبادة والتطهير العرقي على يد المحتل، فعين المصوّرة ترصد الأحداث بصدق حتى لو سكت الكلام، فتنطبع الصورة في الذهن مثل رؤية فارس عودة..محمد الدرّة..إيمان حجو..سارة.. راشيل كوري.. و..و..ومتابعة التشوّه الجسماني للطفل في بغداد، ومشاهدة آثار الحصار الاقتصادي كسوء التغذية وتفشّي الأوبئة والأمراض الخطيرة والمميتة لأشقّائهم في العراق!

هذه المشاهدات الحية على الفضائيات المختلفة وسماع صرخات الألم والأنين والاحتجاج لإخوة لهم بالدم ولّدت فيهم الغضب وفجّرت الرغبة في الانتقام، وترجمت هذه الرغبة بالإجابات الصريحة عن أسئلة طالت عينة عشوائية في مخيم اليرموك شملت 94 طفلاً (8-17 سنة) ذكوراً وإناثاً.

1- المصدر الرئيسي للأخبار؟

2- دورك كلاجئ وتفاعلك مع الأحداث، كيف جسّدته؟

3- علاقتك بالحاسوب والألعاب الإلكترونية الأمريكية؟

4- تأثير مشاهد الحرب على سلوكك وعلاقتك بالمحيط؟

وكانت النتائج كالتالي:

1- 97% مصدر الأخبار شاشة التلفزيون، تحديداً الفضائيات.

2- 61% شاركوا في المسيرات والاعتصامات ضد إسرائيل والولايات المتحدة، ودعماً للانتفاضة وحق العودة.

35% ساهموا في دفع التبرعات للانتفاضة (في مدارسهم) من مصروفهم الشخصي.

4% لم يفعلوا شيئاً.

13% شاركوا في معارض رسوم وصور وفعاليات داعمة أخرى.

3- 37% يتابعون ألعاب العنف على الحاسوب، مع علمهم بأن بعضها أمريكي، والإجماع أنهم ضد المنتجات الأمريكية!

17% ميل لشراء ألعاب (دبابة، رشاش، ألعاب نارية ومفرقعات).

11% يتابعون أخبار الانتفاضة على النت.

35% لم يحدد.

4- 12% يلجأ لأحد الوالدين خوفاً.

58% غضب وتفجر داخلي (رغبة في العمل الفدائي ضد المصالح الإسرائيلية والأمريكية).

62% قهر واستياء من الموقف العربي الرسمي.

93% فخر بالانتماء إلى فلسطين، واعتزاز بأطفال الحجارة وأمل بالعودة، وتحرير العراق.

كل ماسبق يجعل الكلمات تعجز عن الحديث عما يعتمل في صدور الأطفال. فقد عكست النتائج تعايشهم مع الواقع وتلاصقهم مع قضايا أمتهم رغم بعدهم عن ساحة الحدث والمواجهة، فالفضائيات تجعلهم ينخرطون في أتون المعركة ويتابعونها لساعات طويلة يومياً مما يحفّز فيهم المشاعر المختلفة والمتناقضة أحياناً، فيؤثر ذلك على نفسيتهم، وهنا يأتي دور المحيط الاجتماعي (العائلة، الأقارب والأصدقاء، المدرسة، اللجان التخصصية للدعم النفسي) في تقديم النصح لرفع معنويات الطفل والحد من التوتر النفسي أو التطرف بكل أشكاله وزرع الثقة بالنفس، والعمل مع المؤسسات الأهلية وغير الحكومية للضغط على الهيئات الدولية لمنع إسرائيل من الانتهاكات الصارخة للقوانين والمواثيق والمعاهدات الدولية الخاصة بحماية الأطفال من الحروب والنزاعات المسلحة، والعمل على تنفيذ مواد اتفاقية حقوق الطفل التي صادقت عليها الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر تشرين الثاني ،1989 وتأكيد حق الشعب العربي الفلسطيني في العودة وتقرير مصيره وإقامة دولته الوطنية المستقلة ذات السيادة.

ربما يحق للبعض التساؤل: لماذا العودة لعشر سنوات خلت؟

إن استمرار ممارسات العدو القمعية الإرهابية ضد أطفال فلسطين والاعتداءات المتكررة على جميع المناطق الفلسطينية، وآخرها القمع الهمجي للمسيرات السلمية في عدة قرى بالضفة الغربية رفضاً لقضم الأراضي والاستيطان، وقبلها العدوان على غزة في نهاية عام 2012 والتهديد حالياً بالتحضير لعدوان جديد عليها، والاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، وملاحقة الأطفال واعتقالهم، كل هذا جعلني أتساءل:هل يمكن للتاريخ أن يكرر نفسه؟ رغم قناعتي بعدم عودة التاريخ، لكن الخلل الكامن بالأشخاص الذين لايستفيدون من مراجعة دروس التاريخ ويغلّبون العنف خدمة لمصالحهم الخاصة على لغة العقل الذي لو استمعوا له وللقوانين الدولية لَمَا أقدموا على تكرار تجربة الحرب والاعتداء. فالشعب الفلسطيني جاهز للرد القاسي على عدوانهم، وقد أذاقوهم ذلك مؤخراً. لكن يبدو أنهم لم يعتبروا، علماً بأن المجتمع الدولي ومواقفه اختلفت كثيراً عن السابق، وازداد المؤيدون والمناصرون للقضية الفلسطينية رغم انشغال العرب بقضاياهم الداخلية! كل هذا دفعني لتقليب موادي القديمة على طريقة (العودة إلى الدفاتر القديمة) واختيار تلك المادة لأنها تنطبق كلياً على الواقع الحالي المشابه لمجريات بداية العقد الماضي وانغماس الأطفال بالعمق في المواجهات وتأثّرهم بمجرياتها وتأثير ذلك عليهم. وقد عُدّلت المادة بما يتناسب مع تلك التطورات دون التأثير على مضمونها الأساسي المرتبط بأثر العنف على الأطفال، ودون المساس بنتائج المسح التي أتوقع التغيير الجزئي والطفيف عليها وبما لايؤثر على الناتج العام للعمل.

هل من معتبر؟ وهل يستجيب العدو للنداءات الداعية للتوقف عن قتل الأطفال وزجّهم بما لايتناسب مع أعمارهم وأجسادهم وعقولهم الغضة البريئة والنقية من شوائب الإرهابيين الكبار؟

العدد 1105 - 01/5/2024