التمكين للغة العربية بين التنظير والفاعلية

بقيت عدة سنوات عضواً في لجنة التمكين للغة العربية، بصفتي صحفياً، وكاتباً له سبعة كتب منشورة، وثلاثة مخطوطة قيد الطبع.

وكنت في أغلب اجتماعات اللجنة صامتاً، مستمعاً، أصغي باهتمام، محللاً، متابعاً، مدققاً، فأنا زاهد بالكلام، وأتمنى أن أسمع أكثر مما أتحدث، لأنني أمتلك لساناً واحداً للكلام، وأذنين اثنتين للسمع، وأرى أن المستمع الجيد، مُتحدث جيد بامتياز.

كما أن الزملاء من أعضاء اللجنة، وهم أكاديميون وأدباء ورؤساء منظمات شعبية، وبعض المديرين، كانوا يصولون ويجولون ويتحدثون ويتحاورون، فيختلفون ويتخاصمون، ومن ثمة يتفقون.. فأقول: إن لغتنا العربية بألف خير!

لكنني فوجئت في إحدى الجلسات بأحد الزملاء، وهو أكثرهم إطالة في الحديث، يعرض أن تقترح اللجنة زيادة التعويض المالي لأعضاء اللجنة، نظراً لأهميتها في المحافظة على اللغة! فابتسمت في خبث، وقلت في سري: إن وراء الأكمة ما وراءها! فالرجل يستحق تعويضاً إضافياً، لأنه في اجتماعات اللجنة، يتحدث كثيراً، ولا يهدأ لسانه أبداً.. بما أن الأمر كلام بكلام، وتقعّر لغوي، وبرامج على الورق فقط، وما دام ديناً، فضع كيلاً!

وكي لا أغمط الآخرين حقهم، فثمة أعضاء في اللجنة منطقيون جداً، يتحدثون في مجال عملهم بما يهم اللغة العربية.

لكن أحد السادة المحافظين، ورئيس اللجنة هو المحافظ حكماً، توقف عندي ملياً، وخاطبني: أنت قلّما تتحدث أستاذ.. فقلت: إن العقلاء يستمعون أكثر مما يتحدثون. صدمته إجابتي، فابتسم وقال: نريد أن نسمع منك شيئاً، وأكرر اليوم ما قلت: (إن اللغة كينونة الأمة، ترتقي بتقدمها، وتشمخ بحضارتها، كما أنها تعيش حالة انكسار وقلق في عصور انحطاط الأمم.. وليس هناك جهة بعينها أو مؤسسة بذاتها، مهما اتسع مداها، وبلغ حجم تأثيرها، تدعي أنها تحمي حمى اللغة، وتذود عنها، وتدفع عنها أسباب الوهن والضعف بالتمكين لها، مع تقديري لجهود مجامع اللغة العربية التي تؤدي دوراً مشرفاً في تأصيل اللغة، ورد الغريب، والترحيب بالوافد بعد ترويضه، وتعريبه، وطرد الشارد النافر، الثقيل، الوعر، المستثقل غير المستساغ لفظاً وسمعاً. فالتعليم بمراحله كافة، والكتاب المدرسي ووسائل الاتصال والإعلام: مرئية ومسموعة ومقروءة، ناهيك بالمستوى الحضاري للأمة، واعتزاز الشعب بذاته. واللغة منطوق الذات، وغير ذلك كثير كثير، مما يؤثر على مكانة اللغة: قوة وانتشاراً واعتزازاً.

وتابعت قائلاً، وعيون أعضاء اللجنة جاحظة وأسماعهم مشدودة: أما نحن في هذه اللجنة الموقرة، فعلينا أن نبدأ من أنفسنا، وندخل دائرة الخير، ونحقق شيئاً للغة العربية.. وأقترح أن يكون حديثنا في الاجتماع باللغة العربية الفصحى.. فقلبَ بعضهم شفته السفلى استغراباً واستنكاراً، فتجهّم صوتي، وازداد حدة، وأضفت: كما أن المراسلات بين المحافظة وشركاتها ومؤسساتها ومديرياتها، تكتنفها الأخطاء النحوية والإملائية، إضافة إلى تقرير مجلس المحافظة، وجريدة (الجولان) التي تصدر عن محافظة القنيطرة. وعندما تنتفي الأخطاء مما ذكرت، نكون قد حققنا خدمة للغتنا، لأن المثل الجولاني يقول (من يحمل حجراً كبيراً لا يضرب). ومن يتحدث عن خطط ومنهجيات كبرى، وهو نفسه لا يتمكن من صوغ كتاب من سطرين بلغة سليمة، فإنه يهذي ويضيع وقتنا سدى، ونكون شركاء بتكريس الأكذوبة الكبرى التي تحملنا وزرها جميعاً، واكتوينا بنار شررها، وأقصد إخفاء الحقائق وتزوير الواقع، والكذب على الذات والمواطنين والمسؤولين.

تذكرت هذه الواقعة، واستحضرت حوارات ومداخلات ونشاطات أعضاء لجنة التمكين للغة العربية عندما اطلعت على التقرير المقدم لمجلس محافظة القنيطرة في دورته العادية الثالثة، وفي متنه نسخة عن أعمال المجلس في دورته السابقة، فراعني عديد الأخطاء: نحواً وصرفاً وتراكيب، فتذكرت أن اللجنة المعنية بالتمكين للغة العربية مازالت تجتمع، ويقبض أعضاؤها تعويضاتهم، وتدور رحى حواراتهم، فيسعفني التراث الشعبي الجولاني بمَثَل سائر عند أهل الجولان (دبكة خرمة).

العدد 1105 - 01/5/2024