بعد منتصف الليل

 

هنا.. بعد منتصف الليل.. عندما يحكم السواد قبضته على غرفتي المرمية على أطراف المدينة.. غرفتي الوحيدة في مواجهة التشرد.. هنا.. عندما يحاصر البرد جدرانها العتيقة ويهدّدها من جميع الجهات..البابُ المقفل والنوافذ المغلقة والستائر التي تمنع الرؤية وتحجب ما يجري داخلها.. في هذه الغرفة الحمراء، أرتمي على وحدتي وسكوني محاولاً أن أستجمع قوّتي وشدّتي، لا بل أتمنى أن أصل إلى الحالة التي أستطيع من خلالها أن أبطش بما حولي.. ولكن.. من أين سأجلب كل ما أحتاجه من قوة في هذه الليلة غير الطبيعيّة؟!

تستلقي بجانبي وكل ما في المكان يدعوني إليها…. وأنا أتمنى ذلك من كل قلبي.. لاسيما بعد أن أعددتُ العدّة لذلك وأحضرت  كل ما يلزم من أجلها.. الأمر بمنتهى البساطة.. زجاجة من النبيذ.. وقليلاً من المكسّرات الشهيّة من فستق وبندق وبعض البذور.. صحن صغير بداخله تفاحة،  وبعض حبيبات الرمّان الحامض.. تفقدت الطاولة ، من وجهة نظري ، لم يعد ينقصني أي شيء في هذه الليلة الباردة.! دون عناء  في التفكير حملتُ وعاء الوقود وملأته.. أشعلتُ المدفأة.. انتظرتُ حتى ازرقّت نارَها.. الأمر بمنتهى البساطة ولا يحتاج إلى جهد .. سأوفّر الجهد لها.. من المؤكد أنني سأحتاج إليه.. هذه المدفأة تسعر وتوزع الحرارة في كامل أرجاء الغرفة.. الدفء يطارد البرد إلى خارج غرفتي.. هكذا.. تزداد درجات الحرارة ويزداد شوقي إليها.. رائعة  وهي مستلقية ، جميلةٌ إلى أقصى درجات الجمال ، ناعمة ، لم تعكرها الأيادي.. كل ما فيها يدعوني إليها لأحتضنها  ، لأسكب عليها عصارة قوتي وجهدي.. أمسكت  زجاجة النبيذ.. نزعتُ غطاءها بسرعة وبشيء من العصبية.. فارتْ.. نعم فارتْ واندلقتْ على الطاولة.. بللتْ أطراف التفاحة.. التهمتُ الجزء المبلل.. وقضيتُ على ترتيب صحن المكسّرات.. بَعثرَتْ أصابعي حبيباته الشهية.. ازددت  شوقا  إليها فيما لم أعد أحسّ بالبرد نهائيا  ، تخلصت  من بعض ملابسي.. من معطفي السميك ومن غطاء رأسي المصنوع من الصّوف.. تحرّرتْ  أصابعي من ارتعاشها وجبنها.. أصبحتْ أكثر مرونة وحركة.. أصبحت  الغرفة وكأنها فوهة بركان..!

لست  في عجلة  من أمري.. فالوقت  مازال مبكرا  كي يستيقظَ النهارُ ويفضحنا.. يمضي الليل بطيئا .. وأنا أزدادُ  شوقا  وارتباكا .. لا أعلم السبب الحقيقي لهذا الارتباك.. هذه ليست المرّة الأولى ، لقد اعتدت  على ذلك كلّما كنت  وحيدا  وكانتْ معي بعد منتصف الليل.. لا أعلم من أين أبدأ ولا كيف ابدأ..!

 ارتشفتُ المزيد من النبيذ.. وكلّما نقصتِ الكأس زادت نشوتي وحاصرتِ الأفكار رأسي وطفقتِ الكلمات المخمورة تشاركنا اللحظات.. إلى أن امتلكتُ قوتي فجأة  وتقدّمت  منها.!

بقيت ساكنة دون حراك.. الأفكار تتداخل وتتأرجح بين أطراف رأسي.. لامستها.. قلّبتها.. مسحتُ جسدها الأبيض الجميل بأصابعي.. بأصابعي الدافئة.. وضعت  الكأس جانبا  بعد أن استهلكت  ما بداخلها.. اقتربتُ  منها وأنا أحملُ معي جبلا  من الكلمات.. لم تتحرّك.. سلمتْني جسدها بسهولة .. كانت واثقة من أنّ ما ينتظرُها هذه الليلة ، هو تماما  ما كانت تنتظرُه كلّ ليلة بعد منتصف الليل.. استلقيت  على بياضها بكلماتي وأفكاري.. عكّرت  ذلك البياض وكتبت  عليه قصتي الجديدة.!

العدد 1105 - 01/5/2024