لَهُمْ غَنتْ..

نفحات طيب وأشواق، حب وهيام، مخرت بشجيّ صوتها عباب أرواحنا، العطشى للجمال منذ الصغر. فما مرَّ صباح على عاشق، إلا أفاق على تغريد فيروز.. ما مرَّ عليه مساء، إلا ونام على هدهدتها.. غنَّتْ للجمال فازداد جمالاً.. وللحب فازداد عذوبة.. وللعشق فازداد تألقاً..

تمرُّ بنا السنون صوب أرذل العمر، ووقع نغماتها ذاته ما يزال يحفر في نفوسنا، كجدول ماء ربيعي يبحث عن مصبه غير النهائي في القلوب.

**

تغيب الفصول، إلا الخريف، فقد انزوى – على عرشه الخاوي من خلاّنه – خَجَلاً من صدى أنغامها، التي شقَّت الفضاء، لتجلب الأمل لفقير أضناه الغرام، لرغيف خبزٍ يسدّ به رمقه، واعدة إياه بقدوم ربيع، يَطْرَب، وتطرب له الأشجار والأطيار.

تغيب الفصول، وبريق صوتها ما انفك يغزل ألوان طيفٍ، انبثقت من سحب الشتاء، لبعثِ ربيع، يُزهر درب كل مظلوم، يبحث عن نور افتقده منذ زمن، يضيء به ظُلمةً، خيَّمتْ على كوخه، بعد أن حاكت خيوطها السوداء حول روحه.

**

وفي لحظة، ركنت فيها إلى نفسي.. سبحت فيها مع عالم الخيال، سمعت صوتاً ملائكياً آتياً من بعيد يقول:

إن فيروز، التي تحمل في ثنايا صوتها عبق الشآم وسحره، قد غنَّتْ لطبيعة حُرمت من شدو وزقزقة عصافيرها، كل صباح..

غنَّتْ لشتاء مأزوم فَقَدَ مُحبيه، لِفَقدِهم النار، فاكهة الشتاء الشهية..

غنَّتْ لطفل يموت باحثاً عن ثدي أم، ضاعت بين سافيات القبور..

غنَّتْ.. لكل متيمٍ بمسقط رأسه.. دمشق.. حلب.. حمص.. إدلب.. حماة.. طرطوس.. اللاذقية.. الرقة.. الحسكة.. أو دير الزور، غنَّتْ.. لكل مفتخرٍ بدرعا والقنيطرة وجبل العرب.. لكل المدن والأماكن، التي تاقت للقيا مُحبيها، الهائمين على وجوههم، في كل حدب وصوب.

لهم غنَّتْ.. ولأحبتهم الحاضرين والغائبين.. لهؤلاء وهؤلاء فقط غنَّتْ فيروز!

العدد 1105 - 01/5/2024