التشاركية.. عود على بدء !

يبدو أن مجلس الوزراء استنفذ كل ما لديه من سياسات اقتصادية، فلجأ إلى ما تبقى من سياسات الفريق الاقتصادي السابق ليعيدها إلى الحياة، بعد أن خُيّل إلينا أن النسيان قد طواها.

ومن هذه السياسات: التشاركية، فقد لُفظ الغبار عن مشروع قانونها الذي كان الفريق الاقتصادي السابق قد أعده مستعيناً بخبراء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهذا ما يذكّرنا بالخطاب السقيم والفارغ الذي أدلى به نيوت جنجرتش، رئيس مجلس النواب الأسبق والمرشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية بقوله: (إن اليهود يقيمون في أرضهم ولكن الفلسطينيين شعب تم اختراعه…).

ويبدو أن التشاركية (كما تراها الحكومة) هي الحل المسلّم به للأزمة التي نمر بها، أما السياسات النقدية والمالية (تحديداً الضريبية) التي هي المنقذ والحل للأزمات فتعتبرها الحكومة اختراعاً ولا تعمل بها.

قد يكون نيوت جنجرتش لم يقرأ التاريخ، وقد يكون هدفه تسييس التاريخ، لكن ألم تقرأ حكومتنا تاريخ وواقع اقتصادنا، أم هدفها خصخصة اقتصادنا…؟!

من هذا المنطلق تصدر قرارات مجلس الوزراء السوري التي يعقبها في العادة تصريحات المسؤولين بتبرير هذه القرارات، ولعل من بين أخطر هذه القرارات مشروع قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص (التشاركية سابقاً) الذي نأمل أن يتوقف السادة أعضاء مجلس الشعب بمسؤولية عنده، لدى مناقشته، انطلاقاً من المصلحة الوطنية للاقتصاد.

في فترات ما دُعي الانتعاش الاقتصادي) كانت الحكومات المتتالية في تلك الفترة تنادي بالتشاركية حلاً وحيداً وسحرياً للنهوض باقتصاد سورية، وكنا ننادي بخطر دخول القطاع الخاص إلى البنى التحتية، وهذا ما أثبتته الأزمة، إذ إن شركات النفط الأجنبية كانت أول المنسحبين من النشاط الاقتصادي بعد صدور قرارات العقوبات الاقتصادية، تلاها انسحاب الشركات المشغِّلة لمرفأي اللاذقية وطرطوس وما يمكن أن ندعوه بالعهد الجديد للتشاركية التي انسحبت في ظروف غامضة، تماماً كما كانت عقودها في ظروف غامضة.

الآن رغم تغير أعضاء الحكومة، إلا أن النهج هو ذاته والفكر هو ذاته (التشاركية)، وكأن التشاركية هي المنطاد الذي سيرفع سورية من براثن التراجع الاقتصادي!

لماذا يعجز أعضاء الحكومة عن التفكير في حلول أخرى؟ أم أن هناك من يفكر نيابة عنهم وهو ذاته الذي كان يفكر نيابة عن الحكومة السابقة؟!

هل يعقل أن هناك لاعباً واحداً يخطط ويفكر، والباقي أحجار بيد هذا اللاعب…!!!

أيعقل أن التشاركية هي الطريق الوحيد لحل أزمات سورية المتراكمة والهيكلية؟ لماذا هذه الازدواجية في تفكير الحكومة، تنادي جهاراً باستغلال المؤسسات الدولية (صندوق النقد والبنك الدوليين) للدول النامية، وأنها ضد سياسات هذه المؤسسات، وتفعل ضمناً ما تطلبه هذه المؤسسات من رفع الدعم عن قطاع المحروقات ورفع الدعم عن مادة الخبز، والتداول بتعويم سعر الصرف، وإعطاء دور أكبر للقطاع الخاص مقابل انسحاب الدولة من الحياة الاقتصادية؟!

علماً، عزيزي المواطن، أن إلغاء الدعم وإعطاء تسهيلات كبيرة للقطاع الخاص دون إعطاء ضمانات وحماية اجتماعية للمواطنين كانت حلم الحكومة السابقة قبل الأزمة، وقد جاءت الأزمة أفضل شماعة لتبرير سياساتها الراهنة.

لماذا تسعى الحكومة دائماً إلى معالجة نتائج قراراتها الخاطئة على حساب المواطن المهمّش والعامل الذي لم يتبقَ لديه سوى الدولة لحمايته؟ لماذا لا تفكر الحكومة بتعديل السياسات الضريبية والنقدية وتفعيل عمل وزارة الشؤون الاجتماعية؟!

ألم تدرك حكوماتنا المتتالية، أن البنى التحتية والمرافق العامة خط أحمر، لايجوز تجاوزه؟ ألم تقرأ حكوماتنا ما حصل في الولايات المتحدة عندما رسا عطاء إدارة مرفأ نيويورك على إحدى الشركات الإماراتية، كيف تعاطى الكونغرس الأمريكي مع هذه العملية وصوّت بإلغائها، بحجة أن تولي شركة أجنبية إدارة مرفأ نيويورك هو مساس بالأمن القومي الأمريكي؟!

لماذا هذا التسارع والتراكض وراء تطبيق سياسات دمّرت اقتصادنا ووطننا في الماضي القريب جداً، كيف يمكن المناداة بتطبيق التشاركية التي أثبتت فشلها في تجربة مرفأي اللاذقية وطرطوس وشركات النفط، على الرغم من أن سورية احتلت حينذاك المرتبة 147 والآن تحتل سورية المرتبة 167 عالمياً.

وقد وجه مؤشر مدركات الفساد 2013 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية تحذيراً من أن إساءة استخدام السلطة، والتعاملات السرية، والرشوة، هي مشكلات مستمرة في تخريب المجتمعات في شتى أنحاء العالم، وقالت هوغيت لابيل رئيسة منظمة الشفافية الدولية: (يُظهر مؤشر مدركات الفساد 2013 أن جميع الدول ما زالت تواجه تهديد الفساد على جميع المستويات الحكومية؛ من إصدار التراخيص المحلية حتى إنفاذ القوانين واللوائح).

هل استطاعت الحكومة وضع الإجراءات وإصدار القرارات التي من شأنها الحد من الفساد قبل التفكير بإصدار مشروع قانون الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص..؟!

كيف يمكن لنا (نحن عامة الشعب) ومن يمثلنا في  مجلس الشعب القبول بتوكيل شؤون حياتنا الضرورية اليومية (على وجه الخصوص الكهرباء والمياه) لقطاع خاص، في ظل دولة احتلت المرتبة 167 من أصل 177 دولة في مؤشر مدركات الفساد لعام 2013؟!

من سيضمن لي حقي ومن سيحمي هذا الحق من السلب والتهريب خارج حدود وطني؟!

إذا كان لا بد من التشاركية، فلتكن في قطاعات لا تمس حياة المواطن مباشرة، كمرفق المياه والصرف الصحي، ولا تمس الأمن القومي (كالمرافئ والمطارات والطاقة)، وإذا كان لا بد من التشاركية فلتكن في الصناعات التحويلية ذات الكثافة الرأسمالية، وفي مشاريع القطاع الزراعي.

لكل هذا، يبقى السؤال: لماذا هذا الإصرار وإصدار مشروع قانون الشراكة ليشمل القطاعات كافة، وبالتحديد التشاركية في البنى التحتية التي هي عنوان استقلالنا الاقتصادي.

يتشدق دعاة التشاركية بأن البنى التحتية تحتاج إلى استثمارات كبيرة وإلى تكنولوجيا متقدمة، والقطاع الخاص أقدر من الدولة على تأمين التمويل اللازم وعلى استقدام التكنولوجيا وعلى إدارة المشاريع الكبرى.

ولكن فات هؤلاء أن القطاع الخاص كان يُحجم باستمرار عن الاستثمار المشترك أو المباشر في قطاعات البنى التحتية، وكان يبحث دوماً عن الاستثمار في قطاعات خدمية ومالية محددة تدر عليه الربح الوفير والسريع وتكون قليلة المخاطر.

أما في قطاع الإنتاج الزراعي والصناعي فهو يتهرب من القيام بإسهام حقيقي فيه، وهناك من القوانين الحالية ما يسمح له بإقامة مشاريع تشاركية مع القطاع العام سواء وفق أحكام القانون 10 وتعديلاته أم بموجب المرسوم التشريعي رقم 10 لعام 1986 المتعلق بالاستثمار المشترك في القطاع الزراعي.  علماً أن القطاع الخاص المحلي سوف يلجأ إلى الشركات الأجنبية سواء من أجل التمويل أو من أجل التكنولوجيا والإدارة، وهذا يعني تسليم مقدرات اقتصادنا الوطني للشركات الأجنبية.

هل مشروع قانون الشراكة الذي أقرّه مجلس الوزراء، هو فعلاً شراكة! أم توكيل مهام الحكومة والقطاع العام إلى القطاع الخاص، لصالح القطاع الخاص، على حساب ذوي الدخل المحدود..؟!!

العدد 1107 - 22/5/2024