مشّاؤون… من دمشق إلى دمشق

وأنت تعود إلى البيت، بيتك، فكّر بغيرك

(لا تنس شعب الخيام)

وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكّر بغيرك

(ثمة من لم يجد حيزاً للمنام)

تراتيل درويشية

على أرصفة دمشق تكاد لا تجد مكاناً لعبور المشاة… (البسطات) تحتل طرفيها، وقد وضعت لها مظلات على عوارض حديدية، أمام الجامعة وعلى الجسر المحاذي لها وشارع الثورة وغيرها، وكأنها سوق موازية، سوق محدثة لأصحاب الدخل المحدود والأسعار غير محدودة طبعاً…

لكن المشاة يتدبرون أمورهم في هذه الممرات الضيقة، ومن يطفو منهم عن طاقة الرصيف يتسرب إلى طرفي الشارع ليزاحموا السيارات التي تلتصق بعضها ببعض، منكباً على منكب ومقدمةً على مؤخرة بلا معنى.. ويؤمنون لأنفسهم ممرات آمنة للوصول إلى مبتغاهم…

في دمشق لا حاجة إلى امتطاء وسائل نقل عامة، السرافيس المهترئة التي تعاند عمراً أمضته في الركض… أو باصات النقل العامة بألوانها الزاهية لشركات الاستثمار.. لأن أي ماشٍ سيسبقها ويصل إلى مقصده قبلها.. إضافة إلى أنه يوفر الليرات التي يدفعها للباص والسرفيس، أما عن التكسي فحدّث ولا حرج… تدفع المبلغ المرقوم بعد انتظار طويل وممضّ على الحواجز، وتتمنى لو أنك لم تتورط وتورط السائق معك في هذه العلقة، أقل مشوار يحتاج من ساعة إلى ساعتين عند استعمال مركبة،  أما عند استخدام (الموتورجل) فإنه يحتاج فقط من ساعة إلى ساعتين… وهو الوقت اللازم للوصول من دمشق إلى حمص…

في دمشق يولد الآن شعب من المشائين، ليس الجيل الشاب وحده من أدمن المشي للوصول إلى مقاصدهم، حتى الكهول والنساء يقطعون مسافات طويلة يومياً مشياً على الأقدام، وهم يعزّون أنفسهم بالقول إنها رياضة ضرورية ومفيدة… لقد أصبحت سنوات ما قبل الأزمة هي سنوات عز ورفاهية نسبة إلى ما نحن فيه الآن، إذ لم نتبع الحديث القائل: اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم…

تعودنا على إيقاف السرفيس في أقرب مكان لمنازلنا، ومن ملك منا سيارة خاصة نسي عادة انتظار السرافيس واللحاق بها ومزاحمة الآخرين على مكان في الممر، ونسي أن زمناً قادماً لن يترك له فرصة للاختيار بين المشي سيراً على الأقدام أو ركوب النقل العام سيراً على الأرواح، حيث تترجم زفرات الجالسين الصامتين وهم يتأملون أرتال السيارات التي تكاد لا تتحرك، كسلحفاة عذابات أرواحهم… يصرخون بزفراتهم، يحتجون بها، يشتمون، يلعنون، يصدرون بياناتهم الغاضبة، كل ذلك بزفرة واحدة…

تخيل لو أن زفراتهم تجمعت، ألم تكن لتصير ريحاً صرصراً لا تبقي ولا تذر؟.. قال مراقب خبيث..

المشّاؤون.. كلمة من خارج القاموس اللغوي المتداول، ستدخل تاريخ هذا الشعب الذي سكن شرقاً هو الفجيعة بعينها، وها هم أولاء أبناؤه يخرجون (من كهوف الشرق من مستنقع الشرق)  على قول خليل حاوي  إلى شرق جديد، لكنه شرق العودة إلى بدائية الإنسان، إلى غريزته، إلى همجيته الأولى.

المشاؤون.. هم أنا وأنت، من لم تلوث أيديهم بدماء الوطن، من لم يصبح أمير حرب، أو عاملاً تحت أمرة أمير حرب، عليه أن ينضم إلى جيش المشائين، لا خيارات كثيرة أمام السوري، أقصد السوري الباقي في بلده، السوري الذي لم يهرب إلى مخيمات النزوح القاسية، ولم يستطع تأمين فيزا سفر إلى أوربا، ولم ينخرط في حرب ليقتل أخاه السوري..  لديه خياران.. إما أن ينضم إلى أحد الجيوش الكثيرة التي تعد كل مجموعة منها نفسها الفئة الناجية، الجيوش التي أحرقت البلد ولم يتبقّ منه إلا القليل…  أو أن ينضم إلى حزب المشائين، وهو يذهب إلى عمله، وهو يركض لتأمين حاجاته اليومية، وهو يلاحق معاملاته في دوائر الدولة، عليه أن يمشي وهو يتأمل السيارات الفارهة (المفيّمة) وهي تعبر مساربها الخاصة، وتشعره بالمواطنة الكاملة في بلاد ضيقة، مواطنة أن تكون شاهداً صامتاً عاقلاً، أن لا تفكر بغيرك…

أيها المشاؤون، سنمضي مشياً على الأحلام إلى غد نريده أجمل، غدٍ لا يتسع لكل هذه الكراهية التي تتناسل بيننا.

سنتذكر هذه الأيام السوداء كما لو أنها وصمة سوداء على جبين الوقت، كما لو أنها طفرة جينية في جسد البلاد…

فقط… فكّر بغيرك!

العدد 1107 - 22/5/2024