بالأحمر كفناه

قصير عليه قوس قزح، وضيّق هذا الفضاء. الهواء في الأعالي يشبه روحه، والغيمة تليق زجاجة لعطره. هو المسيح المحرّر من صليبه، وهو النبي العائد صوب مغارته. لا الشمس تعرف له طريقاً، ولا النجوم المعلّقة على ياقته تعرف بالضبط ما حلّ به.

لغيابه لون البرتقال، ولحضوره شهوة النعناع. يغنّي، فتصطفّ الملائكة أمام عرشه، يومئ لها فتنصت. يزداد سموّاً حين تهزّ السماء أجراسها فوق هذا الخراب. هو المعلّق فوق كل فوق، والثابت بين ثنايا الأرض زهراً ربّانياً عامراً بالضّوع. من خطاه ينبت الورد، وعلى وقع صهيله تنشب الحروب. رمّاح في كل ساح، وهازئ من موت رجيم يحيط به كسوار من فحم.

ينهض، فتمتلئ السراديب بالكائنات الصغيرة، حيث لا كبير في حضرته، ولا عظيم إن هو حلّ. خوذته هالة من ضياء، الجنّة تحمل صغارها إليه، فينزوي حزيناً في بوتقة نهار طويل بلا ملامح. خارجاً عن كل القوانين يمضي، وصاعداً حين تهبط الأشياء إلى مستقرّ لا يعجبه. الفرح بعض من خصاله، والموت نشيد أبدي يشدّه إليه، فينفلت ساخراً، ويمضي مجلجلاً صوب الله. يسمونه شهيداً، والشهادة تليق به حين تكون سموّاً وارتقاء وخلوداً، حين تكون بعيدة عن معاني الموت والفناء، لأنه لا يموت ولا يفنى. هو معنى سرمدي، تماماً كالحرية والفضاء، بعيداً عن أي مدلول سياسي، جغرافي أو تاريخي. وإذا كانت فكرة الروح المتولّدة عن روح الخالق صحيحة، فهو لا شكّ آخذ من روح خالقه النصيب الأكبر، وحين وُزّعت الألوهة على الأرواح كان له حصة الأسد، حصّة ضمنت له الشهادة كنهاية لوجوده الدنيوي، ليرتقي سريعاً ويسمو.

معروف من ملامح وجهه، مضيء ووضاء، مثل نبيّ يأتي في غير أوانه، ومثل نجم يغيّر مساره الطبيعي، لينتقل من مسار إلى آخر، بعيداً ومخالفاً للمسارات كلها. هو الاستثناء حين تتبلّد القواعد وتبرد. روحه الحارّة تمنح الدفء كغصن شمس ربيعية نبتت في زاوية نائية من سماء كثيرة الزوايا. وفي فضاء دون حدود يلقي خطاباته شديدة الوقع على مسامع ليست كالمسامع، يرتوي من أخضر الكلام فيوزعه خمراً علوياً، لا ينطبق عليه قول ولا حكمة، فقد تفرّد وتوحّد وتكبّر. أمام قوس محكمة ربانية يحضر شاهداً، ومدّعياً. كيف لا، وقد خبر من ماضيه ما لم يخبره أحد. خبرة دفعته دفعاً إلى قاض لا يرحم، وسلّمت لصوته هموم كائنات تملأ الأرض، عن كائنات تملأ الأرض أيضاً، كائنات بيضاء عن أخرى بلون الظلام، نظيفة وملوثة، مقتولة وقاتلة. بيديه سيرفع دفاعه، ويقسم: برائحة المسك الموعود بها، وبلون الدم على ثيابه، إنه الكائن الأنظف والأنبل.

الكتاب في يمينه، محاطاً بملكين، يشهدان أيضاً، يفخران ويتفاخران بأنهما سمعا وشاهدا، وهو المائل صوب الجنة منذ دخوله، مستعجلاً محاكمة لا بدّ منها، النتيجة معروفة… هناك أيضاً كما هنا…! يحقّ له التعجّب، فالهمّ (منشال) على كتفيه، همّ أصدقاء وأهل، همّ وطن ومبادئ، فليتروَّ إذاً. سيعود من حيث أتى، هناك في الأسفل حيث كان منذ قليل يربض ذئاب بأنياب آدمية، وهناك ورد وحدائق وبيوت، هناك غابات وأنهار كالتي هنا، ربما أقلّ جمالاً، وربّما أكثر. يخفض نظره إلى الأسفل، النار ما زالت مستعرة، تدمع عيناه ويمضي إلى جنته.

العدد 1107 - 22/5/2024