رفقاً بمستضعفين لم يبقَ لهم سوى الرغيف!

كان أحد أهم أسباب اندلاع الأزمة التي ما زالت البلاد تُعاني منها منذ أكثر من ثلاث سنوات هو السياسات الاقتصادية المتبعة خلال العقود الماضية، تلك السياسات التي أطاحت بالجانب الإنساني والاجتماعي دونما أدنى شعور بحقوق الشرائح الاجتماعية أو بوضعها الإنساني، وهي التي كانت وما زالت دافع الضرائب الأول والأكبر لكل تغيير أو تحوّل في تلك السياسات التي لم تُراعِ يوماً القدرات والإمكانات المادية الضئيلة أصلاً لتلك الشرائح التي أصبح مصيرها مجهولاً ودروبها لتأمين لقمة العيش وعرة وشائكة، أدت بالكثيرين منها إمّا إلى هجرة البلاد لمن استطاع إليها سبيلاً، أو الضياع والتيه في مسالك مؤذية وربما قاتلة أخلاقياً واجتماعياً.

وقد لفت كثير من الباحثين والخبراء الاقتصاديين والكتّاب والصحفيين انتباه الحكومة إلى خطورة تلك السياسات على المجتمع، خصوصاً على فئات الشباب الذي وصل إلى سوق العمل ليجد نفسه ملفوظاً لا مكان له رغم ما يحمله من مؤهلات علمية، فأصبح عاطلاً عن العمل وعالة على أُسر كانت ترى فيه منقذها من براثن الفقر. والحكومة طبعاً لا همّ لها سوى تحقيق طموحات وأهداف فئة قليلة أثرت بين ليلة وضُحاها على حساب باقي الفئات.

طبعاً كل هذا، إضافة إلى قضايا أخرى تكاتفت معاً لتؤجج أزمة أطاحت بتلك الشرائح ذاتها قبل غيرها بحكم ضعفها، وبفعل ما جرى ويجري اليوم. وبدل أن تتحمّل الحكومات المتعاقبة قبل الأزمة وأثناءها مسؤولياتها للخروج من المآزق المتشعبة والعسيرة التي فرضتها سياساتها غير الموضوعية وغير المنطقية، فقد تخلّت عن مواطنيها في كثير من القضايا الأساسية والهامة والتي لها علاقة مباشرة بلقمة عيشهم برفعها الحماية عن المواطن ورفع الدعم عن بعض المواد والسلع الأساسية في ظروف كان وما زال هذا المواطن بأمسّ الحاجة إلى حكومة تحميه وتدافع عن حقوقه وكرامته ولقمة عيشه. وبدل أن تعتمد هذه الحكومات سياسة اقتصاد الحرب التي أنقذت الكثير من البلدان والمجتمعات في أزمات وحروب مباشرة، فتحت الباب على مصراعيه لتجّار الحروب والأزمات الذين تحكّموا بمصائر الناس ومقدراتهم فجاً ووقحاً إلى أبعد الحدود، فكان ارتفاع الأسعار الجنوني وغير المبرر السمة البارزة للأسواق، إضافة إلى فقدان بعض السلع أو احتكارها لتبرير استمرار ارتفاع أسعارها وعدم مركزية هذه الأسعار أو تفاوتها بين المناطق والأسواق على مساحة البلاد.

وفوق كل هذا الوضع الحياتي اليومي القاسي والمرير في ظل شح المياه وغياب الكهرباء وما يتبع ذلك من مآسٍ لا حصر لها.

واليوم تفتّقت مواهب الحكومة عن خطوة خطيرة وهي رفع سعر الخبز، المادة الأساسية والرئيسية لجميع الشرائح بلا استثناء، مستندة إلى أن المواطن في الفترات السابقة اضطر لشراء الخبز بسعر أغلى من هذا بكثير، وبالتالي هي أولى بالفارق السعري الذي دفعه المواطن، وأن دعم الخبز يكلّف الحكومة أضعافاً مضاعفة. صحيح أن المواطن اضطر لشراء الخبز بسعر أعلى، لكنه اليوم سيكون أمام سعر مضاعف بالطريقة ذاتها، والسبب يعود إلى تحالف بعض العاملين في المخابز مع مستثمري الخبز في الطرقات والمحلات التجارية، وبالتالي افتعال أزمة على منافذ بيع الخبز تضطر بعض المواطنين القادرين إلى شراء الخبز من أولئك الوسطاء، وبهذا يكون المواطن الفقير صاحب الأسرة الكبيرة هو الضحية الأولى لتلك الخطوة المفاجئة التي ستكلّفه شهرياً نصف دخله تقريباً إذا كان لديه دخل ثابت، فما بالك بالذي لا دخل محدداً له، لاسيما أولئك الذين فقدوا أعمالهم ووظائفهم.

والخطوة التالية التي تمّ الإعلان عنها هي مضاعفة سعر المواد التموينية المقننة (السكر والرز) للمرة الثانية خلال هذا العام، رغم أن المؤسسة لا توزع هاتين المادتين توزيعاً منتظماً، وهذا ما سيُضاعف الأعباء المعيشية على الشرائح الأفقر في المجتمع، وكذلك على أصحاب الدخل المحدود الذي لا يكفي أياماً قليلة من الشهر، في ظل الارتفاع الجنوني والخيالي لأسعار المواد الغذائية الأساسية من خضار ولحوم وفواكه صارت لهم من ذكريات الماضي، فكيف برفع الحكومة ذاتها أسعار المواد الأساسية.  

ورغم كل هذا، بقي المواطن عديم الدخل، وكذلك ذوو الدخل المحدود هم وحدهم الصامدون في وجه رياح الموت المجاني والحرب والدمار، يمضون حياتهم على ما تيسّر لهم من قوتٍ يُسكتون به جوعهم، فهم وحدهم دافعو الضرائب الأكبر قبل الأزمة وأثناءها وبعدها. ولهذا على الحكومة أن تراعي وضع تلك الشرائح لاسيما في ظل الحرب الدائرة، وأن تعمل على حمايتهم أكثر من غيرهم بسياسات وأساليب أكثر رحمة وإنسانية، إن لم نقل إن عليها تأمين كل مستلزمات عيشهم وكرامتهم من أجل تعزيز صمودهم الأزلي حماية لهم ولوطن هو اليوم بأمسّ الحاجة إليهم كي يبقى وطناً مستقلاً.

العدد 1105 - 01/5/2024