القطاع العام.. ضرورة موضوعية وسياسة صحيحة

في المقدمة استعرض الباحث شيئاً من التاريخ، مبيناً التطور في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للدول النامية ومنها سورية، فقد رأى أن المهام الوطنية القائمة أمامها والتي إما أنها تتجاوز إمكانات الملكية الفردية الخاصة لوسائل الإنتاج، أو أنها تعبر عن مصالح جماعة المالكين الإجمالية، تفرض ازدياد دور القطاع العام فيها. ومن أهم هذه المهام تجاوز التخلف في أقصر المدد الزمنية، ومواجهة أزمات الاقتصاد الدولي، والتكيف مع التقسيم الدولي في إطار العولمة، وغيرها من المهام ذات الطابع الوطني العام.

حول بعض المسائل النظرية للقطاع العام

يرجع نشوء ملكية الدولة لوسائل الإنتاج إلى تاريخ نشوء الدولة ذاتها، ففي كل العصور والأنظمة كانت الدول بحاجة إلى تملك بعض وسائل الإنتاج السائدة في عهدها، بغية الحصول بشكل مباشر على الموارد وإنفاقها على مهامها، وتزداد أهمية هذه الملكية للدولة عند الأزمات وفي أوقات الأخطار الخارجية.

ملكية الدولة لوسائل الإنتاج حتى في أكثر الدول النامية تقدمية لم تمنع تطور الرأسمالية، وإن ساهمت في عرقلة هيمنتها، كما لم تمنع الاستغلال المحلي وإن خففت منه، ولم تمنع النفوذ الإمبريالي وإن عرقلته.. إلخ.. وهذه الوسطية في المهام نابعة بالأصل من طبيعة الدولة المالكة لوسائل الإنتاج، والعلاقات السائدة في البلد المعني، وإن كانت تتأثر زيادة ونقصاناً بمدى التأثر بالفكر الاشتراكي وتطبيق العدالة الاجتماعية.

ومع أن وجود القطاع العام في البلدان النامية يعتبر ظاهرة تقدمية، إلا أن تحديد طابع ملكية الدولة لوسائل الإنتاج يبقى في الحدود التي ترسمها ملامح الدولة ذاتها، فالطبقة أو الفئة التي في يدها مقاليد السلطة هي التي تقرر طرق استخدام وسائل الإنتاج الحكومية وأهدافها، والفروع التي تشملها.. ويجري ذلك كله في إطار المصالح العامة لهذه الطبقة، مع أنه لا مفر لأي طبقة حاكمة من أن تسعى إلى تحالفات تراعي فيها، بهذا القدر أو ذاك، مصالح الطبقات الأخرى.

العلاقة بين القطاعين العام والخاص

هذه العلاقة كانت دائماً موضع نقاش، وحتى الآن لا نملك صيغة نظرية أو عملية متكاملة حولها، والتجربة في الممارسة تبين أن العلاقة بين القطاعين تفرضها جملة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة في كل بلد على حدة.

ومما نعرفه في الأقطار العربية أن القطاع الخاص لا يواجه هذه المسألة موحَّد الصفوف والسلوك، إن معظم الفئات الدنيا والمتوسطة من هذا القطاع تستفيد من القطاع العام، ولا ترى فيه ما يضرها، إذا حلّ محلّ كبار التجار والممولين والسماسرة.

إن المسألة الأكثر إلحاحاً في هذه البلدان حاضراً ومستقبلاً ليست إضعاف أي من هذين القطاعين الإنتاجيين العام والخاص، وإنما توظيفهما لتأمين عدد كبير من الحاجات الإنتاجية والخدمية وتجنيدها في الصراع الدائر ضد الاحتكارات الإمبريالية واستغلالها. إن الرد على هذه الاحتكارات يقتضي استجماع كل الطاقات المتوفرة وتعبئتها في البلاد، وهذا يتطلب صيغاً من التعاون السياسي بين جميع القوى الوطنية والتقدمية، على غرار التجمعات والجبهات الوطنية التي نشاهدها في بعض البلدان النامية والعربية ومنها سورية، وما التعايش بين القطاع العام والغالبية العظمى من المنتجين الصغار والمتوسطين إلا التجسيد المادي لهذه التحالفات الوطنية.

إن مسألة العلاقة بين القطاعين العام والخاص، تطرح عادة مع مقولة القيادة أو الريادة لأي منهما.. وإجمالاً، إن في البلدان النامية التقدمية يكون الدور القيادي للدولة وقطاعها العام واضحاً، في حين يكتنف الغموض هذا الدور في البلدان الأخرى، إلا أننا نعتقد أن عوامل موضوعية تفرض أن تكون القيادة أو الريادة للقطاع الحكومي، في معظم الحالات.

القطاع العام في سورية أهم مشاكل حاضره وآفاق مستقبله

تعد سورية من البلدان النامية التي كان ولايزال للقطاع العام دوره الكبير في اقتصادها، وفي تطورها الاجتماعي والسياسي أيضاً.. فإذا كان من غير الممكن فصل السياسة عن الاقتصاد في أي من المجتمعات والدول، فلا يمكن فصل السياسة الوطنية التي تنتهجها الآن سورية في مواجهة الإمبريالية والصهيونية عن وجود القطاع العام، وأن يكون قوياً وذا نفوذ في أهم مرافق البلاد الاقتصادية.

والتجربة السورية مع القطاع العام غنية بالعبر، فيها إنجازات كبيرة وأخطاء ونواقص كثيرة، وتُبذل الآن محاولات لتحسين وضع القطاع العام في إطار الجهود الرامية لمعافاة الوضع الاقتصادي عموماً.. ولا يخفى أن هذه المحاولات تتعرض لصعوبات كثيرة، بعضها ذات طابع اقتصادي يتمثل بنقص في التمويل، وبعضها الآخر وربما الأخطر يتمثل تكتل القوى التي تفضّل مصالحها الخاصة على حساب المصالح العامة لغالبية الشعب السوري.

تناول الباحث بعد ذلك نشأة القطاع العام في سورية والتطورات التي رافقتها بالتفصيل الذي يتعذر في هذا الموجز المكتف تغطيته. وأشار إلى أن هذا القطاع واصل العمل في ظل قوانين السوق الرأسمالية المتخلفة، مع أنه بدأ يتناقض معها، وألح في طلب القوانين والنظم التي تلائمه، بوصفه أولاً ملكية دولة، وبوصفه ثانياً قوى منتجة متطورة.

وقد ازداد نمو فروع الخدمات أسرع من نمو فروع الإنتاج، وتجاوز الاستهلاك الطاقة الإنتاجية، وتراجعت الادخارات المحلية أمام ازدياد المصادر الخارجية للتراكم، وبسبب نمو التضخم المحلي والمستورد زادت الأسعار بنسب كبيرة، مما زاد من تكاليف المعيشة على المواطنين.

وكان ولا يزال على القطاع العام أن يتحمل العبء الأساسي من هذا الخلل، إضافة إلى الأعباء الدفاعية التي ازدادت أيضاً في هذه الفترة، وإن كان في ذلك ما يشير إلى أن الدولة لا تستطيع أن تتحكم، عند الصعوبات والمشاكل، إلا بملكيتها المباشرة، وأن القطاع الخاص على خلاف ذلك، فقد نمت فيه فئة طفيلية انصرفت إلى استغلال الوضع لتحقيق المزيد من الأرباح، فزادت تلك الصعوبات تفاقماً، إلا أن ذلك يشير إلى أن القطاع العام في الجهة المقابلة هو الذي تُلقى على عاتقه أعباء كبيرة، وهو في طور النمو إنما يدفع به إلى وضع حرج، قد يحد من تطوره اللاحق.

وإلى هذه الأسباب يرجع جزء كبير من خسائر القطاع العام، أو تدني استثماراته أو ريعيته في السنوات اللاحقة، وهو ما يتخذ الآن حجة ضده، دون أي وجه حق، في حين أننا لا نتصور مدى رداءة الوضع الاقتصادي والاجتماعي لو لم يكن في سورية قطاع عام بهذا الحجم ليتحمل تلك الأعباء.

وفي موقع آخر من البحث تناول الباحث القطاع العام السوري وموقف مختلف الفئات منه، فالقوى الوطنية والتقدمية تناضل للحفاظ على المحتوى التقدمي والاجتماعي للقطاع العام، وتعزيز هذا المحتوى، في حين تسعى البرجوازية الناشئة والقوى الرجعية الأخرى لوضع حد لنشاط القطاع العام في مجال الإنتاج السلعي والتجارة والنقد، أي في الفروع التي تحقق أعلى المداخيل والتراكمات، وهذه القوى المعادية للقطاع العام، تعطي أهمية خاصة لاستعادة سيطرتها على التجارة الخارجية وتجارة الجملة. فالأولى تبقيها على صلة بالأسواق الدولية واحتكاراتها، فتلقى منها الدعم، والثانية تبقها على صلة بالفئات الوسطى، فتسند لها وظيفة الوسيط لاستغلال الشعب والدولة.

وأنصار القطاع العام في سورية يدركون أن متطلبات التنمية أن يتطور الاقتصاد السوري بوصفه اقتصاداً متعدد الأنماط، ومتعدد أشكال الملكية: عام، رأسمالي، تعاوني، مشترك، حرفي، صغير، ولكل من هذه الأشكال للملكية لوسائل الإنتاج مساهمته الموضوعية في هذا التطور المنشود.

ومن موقع الحرص على استقلال البلاد أمام تعاظم قوى العدوان الإمبريالية وقوى عملائها كالصهيونية وما شابهها، لابد لنا من قوة دفاعية فعالة، ومن صناعة دفاعية مساعدة، وكل ذلك لا يكون ممكناً إلا عندما تمتلك البلاد قطاعاً عاماً قوياً وفاعلاً.

أبرز المشاكل التي يعانيها القطاع العام في سورية

1- كثير من شركات القطاع العام ومؤسساته تعاني من تدني ريعيتها، أو حتى من الخسارة، بعضها بسبب سياسة التسعير أو التشغيل التي تنتهجها الدولة ذاتها، وأوضح الباحث هذا الجانب واقترح بعض الإجراءات لمعالجتها.

2- الإدارة البيروقراطية للقطاع العام، والنقص الذي يعانيه القطاع العام في النظم والتشريعات التي تلائم كونه ملكية دولة. وبدلاً من إصدار هذه النظم والتشريعات التي تتطلبها الإدارة الاقتصادية الحديثة، أُثقل هذا القطاع بنظم الإدارة الحكومية التي تفتر إلى المرونة والحيوية والمحفزات المادية والمعنوية.. وسجل الباحث أمثلة واقعية من الممارسات الجارية في هذا المجال.

3- وتشكو مؤسسات القطاع العام كافة من نقص الكادرات المؤهلة، وهذا نقص تشكوه بلا ريب كل قطاعات الاقتصاد الوطني، وهذا يتطلب أن يكون في القطاع العام ذاته جهازه الخاص لتكوين ملاكاته وتكييفها وإعادة تأهيلها وملاءمتها مع احتياجاته المتجددة باستمرار.

4- ومن معوقات تشغيل القطاع العام في سورية، وبالأحرى كل الاقتصاد الوطني السورية، علاقاته غير المتكافئة بالسوق الرأسمالية، ومن أمثلة ذلك تحول العجز في ميزان التجارة الخارجية، إلى عجز عن مواصلة استيراد الكثير من التجهيزات والمواد الأولية اللازمة لتطوير القطاعات الإنتاجية وتشغيلها.

وختم الباحث مذكراً بالجهود والتضحيات التي تقدمها الطبقة العاملة السورية، وبقية الكادحين وجمهور المثقفين لحماية هذا القطاع العام وتطويره.

لمحة من بعض المداخلات حول بحث د. داود حيدو

– عبد المحسن تقي مظفر: أرى لمصلحة تطور الاقتصاد الوطني في البلدان النامية ومنها سورية، (ضرب مثالاً من الهند)، أن تقوم الدولة بإنشاء مشروعات يتولى القطاع العام إنشاءها وتوصيلها إلى مرحلة متقدمة، ومن ثم يسلم هذه المشروعات للقطاع الخاص.

– د. محمد صادق: إن المسألة الأساسية هي في كيفية استعمال الموارد المتاحة للبلاد، أكثر من ملكيتها، فهل توجد حكومة قادرة على أن تضع السياسات المناسبة للمجتمع ككل؟ وإذا افتقد المجتمع لمثل هذه الحكومة الكفأة، فلا أمل في القطاع العام.

– د. عبد المؤمن العلبي: إن كثيراً من العاملين في القطاع العام غير مؤمنين به، بل استؤجروا من أجل تسييره، والمواقع التي عملوا فيها تفتقر إلى الإدارة الحصيفة، والتخطيط السليم، وإلى الرقابة.

– عبد الرحمن العوضي: إن الهدف من القطاع العام في البلدان النامية، هو تملك القيادة الحاكمة للموارد الاقتصادية أو السلطة، وسحب البساط من الرأسمالية المحلية، وتحقيق رفاهية معينة لها.

– عامر ذياب التميمي: هناك دول أجرت تأميمات وحولت القطاع الخاص – أو جزءاً منه- إلى القطاع العام، وذلك لأن أصحابها كانوا يرغبون في ذلك، للتخلص من هذه المؤسسات الخاسرة، وتحويلها إلى الحكومة لكي يأخذوا أموالهم ويستثمروها في أماكن أكثر أماناً وأكثر جدوى.

– جاسم معروف: لقد تعرضت القوى الوطنية والديمقراطية لهزات كثيرة، وأعتقد أن التعايش بين القطاعين العام والخاص هو لصالح القطاع الخاص، وهذا واضح، حتى في ظل توجيهات السلطات نحو دعم القطاع العام.

– علي عثمان: تجارب القطاع العام لم تكتمل، وكانت وليدة، ولم تكن فيها ديمقراطية أو رقابة شعبية، ولم تكن الملكية محددة تحديداً واضحاً، هل هي ملكية العاملين، أم ملكية الدولة، أم ملكية الشعب ككل؟!

– د. مجيد مسعود: ينبغي أن نفرق بين مفهومين وهما (قطاع الدولة) و(القطاع العام)، أي أن القطاع العام عندما يكون فعالاً لمصلحة عامة الناس ومراقباً منهم.. ولكن إذا كان مجرد ملك الدولة، فمن الصعب أن نطلق عليه هذه التسمية، وذلك لاختلاف توجهات الدول والمصالح التي تدافع عنها.

– د. رمزي زكي: التساؤل في الموضوع الذي نتحاور حوله هو: من الذي يدعو إلى تصفية القطاع العام، رغم غياب الطبقات الرأسمالية بمعناها التقليدي في بلداننا؟ فعندما نرجع إلى الأدبيات التي وثقت فكرة الدعوة إلى بيع القطاع العام والتشكيك فيه والهجوم عليه، وزعمت أن القطاع الخاص أكفأ، نجد أن ذلك له علاقة بأيديولوجية النظام الرأسمالي العالمي ومشكلاته.

كلمات من رد الدكتور داود حيدو

ما أقوله ليس تعقيباً على الآراء التي أبديت حول الأفكار الواردة في ورقة العمل التي قدمتها، وإنما استكمال لها.. فالموضوع الذي عرضت بعض جوانبه وهو القطاع العام في البلدان النامية والعربية، مع تخصيص التجربة السورية ببعض التفصيل، هو من المواضيع التي تُناقش على نطاق واسع في الأوساط السياسية والاقتصادية العربية وغير العربية، ولا أعتقد أن مسألة القطاع العام هي من المسائل التي يمكن حسمها في النقاش وحده، فهي من أهم المسائل التي تطرحها التطورات التي تشهدها الحياة الاقتصادية والاجتماعية في كل البلدان.

 

تقدمت إدارة المعهد العربي للتخطيط في الكويت بدعوة للدكتور داود حيدو، للمشاركة في الحلقة النقاشية حول القطاع العام في البلدان النامية التي عقدت بتاريخ ، استجاب د. داود وقدم بحثاً هاماً، له راهنيته حالياً، نلخص بعض ما جاء فيه، بمناسبة الذكرى الثانية لرحيله.

العدد 1105 - 01/5/2024