تحديد السياسات قبل إقرار قانون الاستثمار

كثر الحديث مؤخراً عن تعديلات على قوانين الاستثمار المرعية في سورية وتضمينها تسهيلات جديدة لاستقطاب الرساميل السورية المهاجرة في الخارج، إضافة إلى جذب رساميل عربية وأجنبية، وسيكون القانون بحسب تصريحات المسؤولين بمثابة المظلة الوحيدة الناظمة لعملية الاستثمار في البلاد، معتبرين أنه المنقذ الرئيس لأوجاعنا القطاعية، وآملين أن يُنعش القانون القادم الفرص الاستثمارية من جديد.

ولكن هل تخفيض نسب الفقر.. والبطالة.. ومعالجة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها سورية حالياً مرهون بجذب الاستثمارات المحلية والأجنبية؟ أم أنَّ الدولة تجد من خلال تدفق الاستثمارات الخارجية حيزاً لانسحاب جديد من دورها الاجتماعي في دعم الفئات المنخفضة الدخل، وإلقاء ذلك على كاهل المستثمرين الجدد؟

ومن ناحية أخرى أليس المطلوب قبل تعديل أي قانون تحديد النهج الاقتصادي الذي ستسير عليه البلاد في المرحلة القادمة، إضافة إلى ضمان الأمان والأمن لجذب المستثمرين كي لا يبقى القانون حبراً على ورق، فإصدار أي قانون حالياً مرهون بالحل السياسي الذي سيحدد توجهاتنا القادمة..!

نظرة سريعة

لقد واجه الاستثمار في سورية خلال مسيرته الطويلة العديد من العقبات والسلبيات في تنفيذ القوانين على أرض الواقع، وأهمها كثرة الجهات المخولة بإعطاء الموافقات على التراخيص لاستكمال معاملة المشروع الاستثماري، ويتوجب حصرها بجهة واحدة تُعنى بشؤون الاستثمار، أضف إلى ذلك متلازمة الروتين الإداري والتعقيدات الشكلية وانتشار الفساد في جميع مفاصل الدولة.

فعلى الرغم من التعديلات الكثيرة على قوانين الاستثمار إلا أنها لم تتمكن من جذب حجم الاستثمارات المأمول، كما أن جل الاستثمارات تركزت في القطاعات الريعية والخدمات، ولم تنخرط بشكل فعلي في العملية التنموية، ما تسبب في إهمال قطاعات الاقتصاد الحقيقي (الإنتاجية) على حساب أخرى أقل أهمية وعائدية وديمومة، ووفقاً للاحصائيات الرسمية تمَّ بين عامي 2005 – 2009 الترخيص بموجب قوانين الاستثمار لـ 1377 مشروعاً موزعاً بين الصناعة والزراعة والنقل، وبلغت تكاليفها الاستثمارية بحدود 1375 مليار ليرة سورية، إضافة إلى المشاريع السياحية الكبيرة والمتوسطة المرخصة من وزارة السياحة، وبلغت مساهمة الرساميل الأجنبية في تلك المشاريع الاستثمارية نحو 29%، ووفق المكتب المركزي للإحصاء حققت الاستثمارات في 2010 معدل نمو إجمالي بلغ 13.6%، وبلغت نسبة مساهمة القطاع العام 42.7% والقطاع الخاص 75.3% من إجمالي حجم الاستثمارات.

وبغض النظر عن الأرقام فقط عانت الصناعة التحويلية في القطاعين العام والخاص نقص الاستثمارات، وغياب التمويل المصرفي، وأدت السياسات الانفتاحية إلى محاصرة الإنتاج الصناعي السوري في عقر داره، بالتزامن مع انتشار الفقاعة العقارية التي شهدتها سورية في العقد الماضي والتي وجهت لنخب قليلة استفادت من تلك الاستثمارات، إذ إن أكثرية الشعب السوري كانت ومازالت تعاني مصاعب معيشية واجتماعية بعد انسحاب الدولة من دعمها للفئات الفقيرة والمتوسطة، وارتفاع أسعار السلع الأساسية بعد تكريس اقتصاد السوق الحر، مع الإشارة أن نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بلغ 71279 ليرة سورية عام 2010 فقط.

واليوم تتجدد الأصوات المطالبة بإعطاء المستثمرين امتيازات إضافية على حساب المواطنين والعمال، إذ يطالب البعض بتعديل قوانين العمل والتأمينات الاجتماعية، التي ترتّب -حسب وجهة نظرهم- على المستثمرين المحليين والأجانب نفقات (مخيفة)، وتتسبب بإحجامهم عن الاستثمار في البلاد، على الرغم من أن القطاع الخاص ساهم في الناتج المحلي الإجمالي في ظل هذه القوانين العمالية بنسبة 64.7% عام 2010.

خطوات ولكن

للاستثمار دور هام في التنمية الاقتصادية وزيادة الدخل القومي وارتفاع متوسط نصيب الفرد منه، وبالتالي تحسين مستوى معيشة المواطنين، وزيادة معدلات التكوين الرأسمالي للدولة، كما أنه يوفر فرص عمل ويقلل نسب البطالة، ونحن نشجع على دعم المستثمرين بشرط أن يكون التوجه صوب القطاعات الاقتصادية الحقيقة (الصناعة، الزراعة)، وألا نتوجه صوب القطاعات العقارية والريعية لجذب المستثمرين، فقد كان لذلك دور رئيس فيما نعيشه اليوم من أحداث.

إن العمل على جذب استثمارات جديدة محلية أو أجنبية يتطلب بالدرجة الأولى وضوح السياسات الاقتصادية وتحديد النهج الذي سنسير وفقه، وأن تأتي القوانين والتشريعات منسجمة مع السياسات الاقتصادية، وضرورة عدم تشعبها وتعديلاتها المتلاحقة مثل قوانين الاستثمار والتجارة والمالية والجمارك، وتبسيط تلك القوانين وإنهاء إمكانية الاجتهاد في تفسير نصوصها، والتأكيد أن أي إصلاح اقتصادي يجب أن ينطلق من إصلاح العلاقة بين الأجور والأسعار، فالاستثمار يحتاج إلى قوة شرائية لتحريك السوق.

العمل على دعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة وإقراضها، وتحفيز المنشآت المتناهية الصغر في الحصول على الترخيص، والسعي لتقديم كل المساعدات الكفيلة بإظهار هذه المنشآت التي تعمل في الظل دون ترخيص، والسعي لإحداث مناطق صناعية صغيرة للصناعات الصغيرة والمتوسطة وتوزيعها جغرافياً على أراضي القطر كافة بغية تحفيز الصناعيين على الانتقال إليها، والإشارة إلى أولوية الاهتمام بالبنية اللازمة للاستثمار، خصوصاً المناطق الصناعية التي دُمّر بعضها، والاهتمام بالطرق الواصلة بين المناطق والمدن لتسهيل النقل إضافة إلى توفير الكهرباء والماء والاتصالات وغيره.

تطوير إجراءات التسليف وتنشيط المصرف الصناعي، وتخفيض سعر الفائدة على القروض المقدمة للصناعيين، بشكل يساعد على تخفيض تكاليف الإنتاج ويسمح للمنتجات بالمنافسة الخارجية.

إن إقرار قانون الاستثمار الجديد دون تغيير الآليات والأساليب المتبعة في العمل لن يفيد شيئاً لأن ذلك سيعيد إنتاج أخطاء الماضي بآليات جديدة.

وفي الختام يبقى الحل السياسي أساس أي تنمية اقتصادية، والخطوة الأولى الملحة التي تضمن إعادة الأمن إلى الطرق والمدن قبل تعديل أي قانون جديد.

العدد 1107 - 22/5/2024