المزيد من السوريين ينزلقون إلى القاع

يتمثل الفرز الطبقي الجديد في سورية، ذو الطابع الهش، بزيادة عدد المواطنين الذين يعيشون في القاع، فالصراع المسلح الذي لم يترك لهم نافذة للمحافظة على الحد الأدنى من الحياة الكريمة، يضاف إلى جملة من الأسباب الأخرى التي دفعتهم إلى الموت برداً، أو جوعاً، أو البحث عن قاع يحتضنهم. بات القاع مكاناً مرغوباً لهم، لاسيما من لم تسعفهم الظروف الحالية على المغادرة أو المحافظة على دخولهم التي كانت تقيهم شر السؤال. لكنه على أية حال، المكان الأفضل من المخيمات، أو مراكز الإيواء، أو النزول في فنادق بصفة سياح، فيما هم مواطنون مقهورون مغلوبون على أمرهم. لاشيء في القاع، سوى خيوط العناكب، والفقر الذي يلتهم الكرامة قبل أي شيء آخر. الطرق المسدودة، والفرص المعدومة، وأسباب الحياة المفقودة، تعصف بحيوات من دفعتهم مجمل الظروف إلى هذا المنفى اللاإرادي، المكان الذي يتسع لأسر بينما هو غير مخصص للبشر.

القاع السوري عميق، حُفر بعناية، هندسته غريبة عن المجتمع المحلي. هذا القاع المستجد، يختلف عن قاع سابق، لم تتجاوز نسبة القاطنين فيه أكثر من 10% من السكان، الآن نحو ثلاثة أرباع السكان اختاروا رغماً عنهم هذا المكان، دفعتهم الإجراءات الاقتصادية إليه، وجعلوا منه وطناً ضيقاً يتسع لما تبقى من سنوات حياتهم. إنها لعنة الاقتصاد بأحدث نسخه الليبرالية، ولعنة الصراع الدامي، الذي تمكن من فتح الجرح السوري، وتعرية كل القناعات الكاذبة التي تضخمت ككرة ثلج، تدحرجت في لحظة واحدة، محطمة كل ما تبقى من عيش ممكن. قاعنا الكبير، الغائر، تتفرع عنه الكثير من الكهوف، الشمس لاتصله، وضوء الخدمات خافت، بل مخفي، تلك الخدمات التي شهدت تدنياً غير مسبوق في مستواها، مقابل تزايد المطالب. لايمكن لقاع عميق يحتضن ملايين الناس ألا يكون في حالة الانتظار، والتقاط اللحظة، لفك القيود، إلا أن الصوت المبحوح، والغياب اللافت لمقدمي الخدمات، واقتصار الأمر على الجمعيات الخيرية والمنظمات الإنسانية، يزيد من عمق هذا القاع.

أفرزت السياسات الاقتصادية الحكومية، قاعاً جديداً، ملامحه لاتقل خطورة عن القاع السابق، وفي كل يوم تدفع هذه السياسات شريحة ما إليه، تهيئ لها الظروف المناسبة للانزلاق، وتتخذ ما يلزم من قرارات تحد من محاولات مقاومتها الهبوط التدريجي إلى هذا القاع. فكل التوجهات الاقتصادية العامة، وما يندرج من قرارات تفصيلية، لا يساعد الطبقات الاجتماعية، المهددة بتراجع مستواها المعيشي، على وقف التدهور الرهيب في دخولها، ومدى قدرتها على تلبية احتياجاتها الأساسية. كيف تظن الحكومة أنها بقرارتها الاقتصادية تتمكن من تأمين احتياجات الناس؟ إنها أضغاث أحلام، ومجرد سراب، وقضايا عالقة تحلها على الورق، بينما الواقع مختلف تماماً، تعقيداته مذهلة، وتشابكاته كثيرة، وتتجاهله الحكومة في محاولة منها لتجاوز المرحلة الراهنة بقسوتها، ومخاطرها.

كان بالإمكان ألا تسمح الحكومة بهذا الانحدار السريع لثلاثة أرباع المواطنين نحو القاع، أو أن توقف هذا الانحدار، بإجراءات نجزم بإمكانية اتخاذها، شريطة توفر الإرادة والرغبة الصادقتين. منها على سبيل المثال لا الحصر، تأمين موارد حقيقية تعزز من ثبات الطبقات الاجتماعية، وتخفف من تهشّمها، وتقلل من تحطم ملامحها، وتحدُّ من تشوهاتها، وبالتالي الحيلولة دون انزياحها المفاجئ نحو القاع. ومن هذه الموارد أموال الفساد، الذي انتشر انتشاراً  كبيراً، وازدادت قيمه وتراكماته وتداعياته. وآن الوقت المناسب لاسترداد ما نُهب من أموال الشعب تحت أي ذرائع، هذه فرصة حقيقية تمنحها الأزمة ولن تتكرر لاستعادة ثروات الوطن التي سُرقت، وأمواله التي نُهبت، قبل إخفاء معالم كل تلك الجرائم المالية. وثمة أفق آخر يتعلق بوقف نزيف النهب والهدر للموارد، والاحتيال على القانون. كما لا ضير في الاقتراض من الدول الصديقة، فالمديونية اليوم لا تثير المخاوف، مادامت تسهم في الحفاظ على العيش الكريم والحياة المعقولة.

يجتذب القاع السوري المزيد من الناس، بقوة عارمة، لاسيما مع التجاهل الحكومي لهذا الواقع المزري، وغياب ما يحد من استطالات هذا القاع المخزي، واتساع مروحته. إنه قاعنا المرير، والمخيف، بجبروته الهائل، الذي تسهم السياسات الاقتصادية بزيادته، وتعمل التوجهات الحكومية على تجاهله، بينما قائمة الذين ينضمون إليه يومياً تطول.

العدد 1107 - 22/5/2024