هل ثورات التسييس تغني عن ثورة الفكر الحر؟

عندما تحدث ابن خلدون عن تطور الدولة أو العشيرة في نظريته قال إنها تمر في خمسة عقود أو أجيال، لذلك اعتبر الجيل الأول هو الأساس والأصل، لأنه مفعم بقوانين الدولة ولأنه تربى على حب الدولة أو العشيرة وأخذ عاداتها وتقاليدها كاملة، واعتبر الخامس الجيل الهادم لأنه لم يأخذ بأي شيء من عادات وتقاليد القبيلة.

طبعاً أصبحنا نلاحظ نظرية ابن خلدون في زماننا هذا، لأن الكثير من الشبان من الجنسين ضاعوا بأفكارهم بما هو جديد وخاصة مع انتشار وسائل العولمة، وانفتاحهم على الغرب، أيضاً انتشار الفضائيات والمحطات الشبابية للأعلام الغربي، فأضحى جيل كامل يتمثل بأقرانه الغربيين ويقلدهم تقليداً أعمى، مما يؤجج الصراع بينه وبين الأهل،
فترى أن البعض يتصرف أمام الأهل بشيء، وبعدم وجود الأهل يكون شخصاً آخر، ونتيجة الخوف من عقاب الأهل نرى أن أغلب الجيل يحمل شخصيتين متناقضتين، فهل يستطع هذا الجيل أن يتخذ قراراً مصيرياً ليغيّر به مجتمعاً أو يصنع قراراً جديداً يلغي به قراراً أصبح بالياً لا يتناسب مع هذا الزمن؟
وهل الخوف جعل جيلاً بكامله يكتم حتى مشاعر الحب؟! فكيف لنا أن نثق بهذا الجيل ونعتمد عليه ونحن نقف أمام جيل كامل من الشباب منهم من يقول ويعتبر القتل وسيلة للتغير، وخاصة في المجتمعات التي تحكمها قوانين القبيلة، والآخر لا يعنيه أي شيء ويريد الرحيل من هذا البلد الذي لم يعد يتناسب مع فكره، فضلاً عن خوف الأهل من التجارب السابقة وخاصة في ميدان السياسة مما جعلهم يبعدون أبناءهم عن كل فكر يحمل رائحة التغيير خشية انجرارهم وراء أفكار لربما تؤدي بهم إلى السجن،
كما حصل في السابق مع الأهل، كذلك لا يغيب عن بالنا أن جيلاً كاملاً توجر به ولقن مفاهيم خاطئة، وكل طرف صور للجيل الحرية بمفهومه ودلّه على الطريق كما رسمه له هو، فضاع الجيل بين القتل والتهريج لتصبح الثورة إزهاقاً للنفوس بذريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويغرق الآخر بالضياع والشتات والخمر والسكر،
فلم يعد الحل يجدي لأن المجتمع ضاع بالقيد والإطلاق، وبدل أن تكون الثورة لنقل المجتمع من العقلية القبلية إلى الانفتاح على العلم والتطور، عادت بنا إلى الخلف لنسقط في بؤرة من الظلام والجهل، فضاع شبابنا السوري بزحمة القيم، وثورة الدعم، ولم يعد يعي أن الحرية تأتي بتحرر النفس من النفس أولاً، ومن الفكر العقيم. ولكي نتقبل الآخر علينا أن نتقبل أنفسنا أولاً،
ونطهر عقلنا من الجهل، ومن ثم نتجه للآخر بثورة فكرية قوامها الجديد المقبول من كل الأطراف، ونعمل على النهوض بالمجتمع بسلاح الكلمة لا القتل، ونتجه نحو الأهل نجعلهم يتقربون من الأبناء ليكونوا يد العون لهم، لنهوض الدولة بكل عقودها على الفكر الحر والكلمة الحرة المسموعة،
لنصنع ثورة على الجهل، تكون عين السياسة الصالحة، ترى كل الفساد لتقتلعه بيد من حديد، تنهض بنا من الظلمة إلى النور، وتعيد مفاهيم الثورة الحقيقة، وتعيد جيلاً غيّبته جميع الأطراف، وجعلته أداة تلقين تخدم مصالحها، فلا سبيل لمجتمع سليم إلا بالفكر السليم، ولا ثورة إلا بثورة على الجهل، ولا شباب إلا شباب ثار على نفسه أولاً وحارب جهله وبعد ذلك ثار بفكره وحرر غيره…..

العدد 1105 - 01/5/2024