لا.. للازدواجية

كنا مجموعةً من الشبّان والشّابات في مقتبل العمر حينما دفعتنا منظومة تفكيرنا ورؤانا للانتساب إلى أحد التنظيمات السياسية التقدمية، وكان الطموح إلى تغيير كل ما نراه حولنا وتجديده، ابتداءً من أصغر الأمور إلى أكبر القضايا التي تخص المجتمع برمته هو جُلُّ اهتمامنا، ومارسنا ما أملاه علينا عقلنا غير الخبير ببواطن الأمور، كل ما نراه صحيحاً ومتوافقاً مع رؤانا وتطلعاتنا.
وارتبط لدي تحديداً أن كل رفاقي يحملون العقلية ذاتها والتفكير ذاته، فكنت أرى فيهم تجسيداً للثائرين الذين كنا نقرأ عنهم في الكتب، مما جعلني أحوّل البعض منهم إلى رمزٍ أرغب في الاقتداء به، نظراً لجرأته في طرح أفكاره المغايرة لكل ما هو قائمٌ أساساً، ولقدرته من جانبٍ آخر على الإقناع بأهمية فكرة التغيير للوصول إلى الغاية الأسمى التي تفوق الغايات الشخصية أو الصغيرة كما كانت تسمى وقتذاك.

أحد هؤلاء الرموز أصابني بعد فترةٍ من الوقت في الصميم.. فبعد أن تعمقت علاقاتنا جميعاً وبتنا كلاً واحداً، بدأنا ندخل في عوالم بعضنا الشخصية غير المعروفة للآخرين، وكانت الصدمة!!!

فقد وجدتُ ذاك الشخص/ الرمز في بيته وضمن محيطه الشخصي إنساناً اعتدت كثيراً على رؤية أمثاله، وكنت أرفضهم، نظراً للازدواجية التي يحملونها في حياتهم، إذ تبيّن لي أنه معنا وأثناء العمل السياسي إنسانٌ مقدامٌ غير هيّابٍ من المخاطر ولا الصعوبات، بينما في بيته إنساناً يشبه الآلة التي تتحرك وفق منظومة قيمٍ مجتمعيةٍ مرسومةٍ سلفاً ومحرّمٌ المساس بها.

كثرت الأمثلة يوماً بعد الآخر، فهو في الخارج مناضلٌ تقدميٌ عتيدٌ، وحينما يدخل منزله يعود لذاك المؤمن الذي لا يقطع فرضاً..
ذُهلت بادئ الأمر لدرجةٍ أوصلتني إلى سؤاله كيف له أن يجمع النقيضين معاً؟ وأين يعيش قناعاته حقيقةً في داخل البيت أم خارجه؟ لكن جوابه بدأ يحثني على المضي في عوالم أشخاصٍ آخرين كُثُر ومن ضمنهم من يمثلون قياداتٍ مرموقةً لا أحد يتجرأ على المساس بتاريخها النضالي السياسي، لأن جوابه كان (إن على الإنسان أن يرضي جميع الأطراف حتى يكون مقبولاً اجتماعياً)!!

بعد مضي فترةٍ من الزمن، دعانا ذاك الذي كنت ألقبه بـ(الرمز) إلى حفل زفافه من فتاة أحلامه، وذهبنا للاحتفاء بصديقنا و(رمزنا)، وهنا اكتملت المفاجأة، فحفل الزفاف للنساء فقط، بينما يحتفل الرجال في مكانٍ آخر!!!

خبا في عينيَّ بريق الأمل في التغيير، واعتمدت قناعةً جديدةً لدي أن لا رموز بعد اليوم، ودخلت في دوامةٍ من الشك بكل تلك المعتقدات والقناعات التي حملناها منذ الصغر، إذ وجدتها تتهدّم أمام أبواب قلاع المعتقدات المجتمعية المتوغّلة في نفوسنا، لكني لم أدع لتلك الحالة النفسية أن تردّني القهقرى، أو تدفعني لتبنّي ما أرفضه،
إنما لم يعد لدي الإيمان الكامل والقوي كما السابق في التغيير المنشود، فأي عملٍ إن لم يكن نابعاً من قناعةٍ حقيقيةٍ بحتةٍ، ويتملك الشخص من داخله، فهو حتماً فاشلٌ لا محالة مهما طال الزمن..
وإن لم نتصالح أكثر مع ذواتنا ونكون حقيقيين بما نعتقده حتى لو اختلف مع ما يعتقده الآخرون، فإن كل محاولاتنا للتغيير ما هي إلا موضة تعيش بعض الوقت لتموت حينما تحيا غيرها…

 

العدد 1105 - 01/5/2024