الخندق الآخر بديلاً لزمن الرومانسية مع الحكومة

انقضى زمن الرومانسية الاقتصادية بين المواطن والنقابات من جهة، والحكومة من جهة أخرى، وهذا يرتب شكلاً جديداً للعلاقة بينهم، ومضموناً آخر، هو بالضرورة مختلف كلياً عن السابق، وفي هذا مصلحة لكل الأطراف. لم يعد (الخندق الواحد) في القضايا الاقتصادية صالحاً، لأن الحكومات المتعاقبة مؤخراً غادرته بمحض إرادتها. هذا الخندق هو شعار لزمن مضى، ومرحلة أفرزت تشوهات هائلة في بنية الاقتصاد الوطني، وجعلت من الحكومات المتعاقبة بلا رؤية واضحة، وبلا مشاريع، وبلا سياسات اقتصادية. إذ كانت الأمور تسير كما تشاء التطورات، نتيجة غياب الحراك الاقتصادي، ووجود فجوة عميقة بين الفاعلين الأساسيين على الساحة الاقتصادية، وشرخ هائل مع المواطن. أول غيث الزمن الجديد الذي ننتظره، أطلقه رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال جمال قادري بقوله: (لن نهادن في القضايا العمالية)، واستطراداً الاقتصادية. هي ليست مفاجأة، بل عودة إلى المكان الطبيعي للعمال وقياداتهم، وبلورة جديدة لموقف حتمي لابد منه للطبقة العاملة، التي تشكل اليوم نحو نصف عدد العاملين بالدولة، إذ تشير الإحصاءات إلى  1.2 مليون عامل ينتمون إلى الطبقة العاملة التي يعتقد الاتحاد العام لنقابات العمال بتبعيتها له، بينما يعمل لدى الدولة 2.5 مليون عامل من ضمنهم العمال. الموقف الجديد للاتحاد ينطلق من وجود هذا الكادر البشري الكبير، والقادر على التأثير في القرارات الاقتصادية وصناعتها، ومن كون العمال أحد أهم جناحي الاقتصاد السوري إضافة إلى الفلاحين.

لابد من الاعتراف بأن منجزات سورية الاقتصادية خلال العقود الماضية، أتت بعرق العمال والفلاحين، وأن تنفيذ السياسات الاقتصادية الشعبية الطابع، كانت بفضلهم. وقطعاً، لم تك الاستثمارات القادمة من الخارج، برغم أهميتها وضرورتها، هي التي وضعت ملامح التنمية في البلاد. لكن لابد من الاعتراف أنه طوال أكثر من عقد ونصف العقد (1995- 2010) جرت محاولات، وبذلت جهود، للتبرؤ من هذا الموضوع، وتجاهل دور هاتين الطبقتين في التنمية، مقابل بروز طبقات جديدة، منها الحضور الكثيف والقوي لرجال الأعمال المحليين والعرب والأجانب في الاقتصاد الوطني، ما يعني تبدل اتجاه البوصلة الاقتصادية. إهمال العمال والفلاحين، كان سياسة واضحة، ومحاولة لإطفاء نجم من يعمل في الاقتصاد الحقيقي. وبعيداً عن جلد الذات، آن أوان تقييم هذه التجربة المريرة، والاستفادة من دروسها، وإعادة الاعتبار لمن يستطيع المساهمة مساهمة فاعلة في الاقتصاد الوطني، بعيداً عن الشعارات الزائفة.

أطلق قادري رؤية جديدة، تتعلق بنهج الاتحاد في المرحلة القادمة، رغم معرفته العميقة بأن المرحلة وتحدياتها، لايمكن أن تسهم بتأمين الظروف المناسبة للتنفيذ. ومن أبرز ملامح هذا النهج الذي يتضمن 31 قراراً وتوصية تمخض عنها المجلس الأخير للاتحاد: التوسع الأفقي والشاقولي للقطاع العام الصناعي، إضافة إلى مشاريع تتعلق بمكاسب جديدة للطبقة العاملة، كتأسيس جامعة ومركز دراسات عمالية وتوسيع مروحة الخدمات الصحية. هذا النهج يتطلب حتماً شكلاً جديداً في العلاقة مع الحكومة، وموقفاً مختلفاً عن السابق في تحديد الموقف العمالي الرصين، من مختلف القرارات الاقتصادية والسياسات ذات الصلة. إلا أن التمثيل العمالي في اللجان المتعلقة بهذا الشأن ليس كبيراً، بل هو في أدنى مستوياته، ولايمثل مركز ثقل ضاغط على متخذي القرار. وعلى سبيل المثال، اللجنة الاقتصادية يملك العمال فيها صوتاً واحداً. وهذا لايغيب عن ذهن الاتحاد العام لنقابات العمال الذي أكد رئيسه قادري أنهم سيعملون على إقناع آخرين برؤيتهم ومواقفهم.

تحتاج هذه الحكومة، أو غيرها في المستقبل، إلى وجود نقابات قوية، قادرة على المشاركة الفاعلة في صناعة القرار الاقتصادي، والمساهمة في رسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، إلى جانب قوى اقتصادية أخرى، وقوى سياسية حزبية وأهلية (مجتمع مدني)، لبلورة الرؤى حول المراحل القادمة، بتفاصيلها، وملامحها. هذه القوى تقف بالضرورة في الخندق الاقتصادي الآخر، وحتماً تترك مسافة فيما بينها وبين الحكومة. مقولة الخندق الآخر، ضرورة ملحة في الجانب الاقتصادي والتنموي، وربما يتطلب الأمر تكاتف النقابات وغيرها من القوى للوقوف فيه، أو في الحد الأدنى تأسيس جبهة أو تكتل اقتصادي، من القوى المذكورة آنفاً، يمارس تأثيراً، في الشارعين الشعبي والحكومي، وفي هذا مصلحة حقيقية للحكومات، والشعب السوري، ليصبح سعيداً.

العدد 1104 - 24/4/2024