ماركس ضد سبنسر | رأسمالية من؟ لمن؟

 وصف ريتشارد بوزنر، وهو من أهم القانونيين والاقتصاديين المحافظين في الولايات المتحدة الأمريكية، أزمة 2008 بأنها فشل لرأسمالية بُنيت على الأفكار الخاطئة للاقتصاديين النيوليبراليين ولطبيعة الرأسمالية المالية الأمريكية، وليس فشل الرأسمالية بشكل مطلق. وفي نقاش مع أحد الزملاء الاقتصاديين من الذين يؤمنون بتفوق الاقتصاد الحر على ما عداه من النظم الاقتصادية حول أزمة الرأسمالية في لبنان، طرح فكرة أن لبنان ليس لديه اقتصاد حر، بل «اقتصاد الغاب»، لما يحتوي الاقتصاد من سيطرة احتكارية لقلة في مجالات عديدة تتيح دعم استعمال قوتهم السياسية والاقتصادية لتحقيق المكاسب المادية على حساب الآخرين. الحل إذاً يكون بتفكيك البنى والنظم التي تعوق السوق الحرة من أجل تحقيق اقتصاد حر ينتج رفاهاً اجتماعياً كما جاء في الكتب الاقتصادية.

الرائج اليوم أيضاً، خصوصاً في تحليلات الاقتصاديين الليبراليين وبعض المؤسسات الدولية لأسباب فشل التنمية في الدول النامية، وصف الرأسمالية في هذه الدول بأنها (رأسمالية الأصحاب) أو رأسمالية (الدولة الغنائمية). هذه الأوصاف استعملت كثيراً خلال الربيع العربي وبعده، بدافع تلبيس الثورات العربية، خصوصاً في مصر وتونس، الرداء المحكم للنيوليبرالية، لكونها ثورات على أنظمة، وإن كانت رأسمالية، وإنما يضربها الفساد والتسلط من قبل أحزاب وعائلات كظواهر هجينة ولصيقة على الرأسمالية الصافية للأسواق الحرة.

تجذّرت مصالح البرجوازية في الاحتكار والريع والاستدانة، هذا التحليل ـ أقلّه في الظاهر ـ ليس بجديد، ويعيد إلى الأذهان مفهوم ماركس لـ(الاستبداد الشرقي) الذي وصف فيه المجتمعات قبل الرأسمالية في الشرق، كيف أنها بسبب أنظمتها في الملكية وسياسياً لا يمكن أن تتطور إلى الرأسمالية كما حدث في أوربا الغربية. على الرغم من الفارق في عمق التحليل بين ماركس وما يطرح اليوم، السؤال يطرح نفسه: هل نحن في الشرق وغيره محكومون اليوم برأسمالية شرقية، وبالتالي ما علينا إلا التخلص من بعض الفاسدين والعائلات والأحزاب المتسلطة لنطلق العنان للرأسمالية الحقيقية؟

أولاً، الرأسمالية نفسها لم تتوافق قطّ مع النموذج الليبرالي الذي بدأ يطرح بأنها نظام اقتصادي تبادلي بين أفراد لا وجود فاعل فيه للربح وتراكم الرأسمال والطبقات وتوزع الدخل بينها منذ تخلص الفكر الرأسمالي من آخر الاقتصاديين العلميين، أي دافيد ريكاردو، الذي حدد مهمة الاقتصاد السياسي بالبحث عن كيفية توزّع الدخل بين طبقات المجتمع، مستعملاً ذلك للبحث عن الديناميكية الطويلة الأمد لهذا التوزع وتأثيره في حيوية الرأسمالية. من دون الدخول في تاريخ الرأسمالية وأشكالها التي اتخذتها منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، إلا أن وصفين لاقتصاديين للرأسمالية اليوم، يبيّنان لنا مدى عدم التوافق بين الواقع والنظرية.

يصف جوزف ستيغليتز، الاقتصاد الأمريكي، وهو أكثر الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة ليبرالية، بأنه اقتصاد الـ1%، مفنداً كيفية الترابط بين السيطرة على الأسواق والسياسات الاقتصادية، وتمركز الثروة والدخل بنحو يجعل الاقتصاد الأمريكي في خدمة حفنة قليلة من النخبة الثرية، عاكسة بذلك الفترة الذهبية للرأسمالية الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية. كذلك، إن توماس بيكيتي في كتابه الأخير (الرأسمال في القرن الحادي والعشرين)، الذي أفردت الجمعية الاقتصادية الأمريكية حلقة خاصة لنقاشه في اجتماعها الأخير في بوسطن في كانون الثاني الماضي كانت من الأكثر حضوراً، أسهب كيف أن الرأسمالية أصبحت رأسمالية ريعية، محكومة بزيادة الفوارق الاقتصادية وتمركز الثروة وتعطيل الديناميكية الإنتاجية للرأسمالية.

ثانياً، حتى لو سلّمنا جدلاً بأن هناك رأسمالية مثالية يجب تحول الرأسماليات المختلفة من رأسمالية الغاب إلى الرأسمالية الريعية إليها، فإن السؤال المهم هو ماهية القوى السياسية والطبقية التي ستنقلنا من هذه الرأسماليات إلى الرأسمالية الحقيقة؟ بالعودة إلى لبنان، للإجابة عن هذا السؤال، فإن الأفق السياسي مغلق بواسطة سيطرة الأحزاب الطائفية التي لا برامج اقتصادية لديها ما عدا تأبيد النظام الحالي التحاصصي. أما الطبقات البورجوازية، فقد تجذرت مصالحها في الاحتكار والريع والاستدانة. بل إن ترابطاً تاريخياً حصل بين صعود الريعية والنظام التحاصصي الطائفي منذ نهاية الحرب الأهلية حتى الآن منتجة قنوات توزيع للدخل والثروة تغذّي هذا الترابط أنهكت تطور قوى الإنتاج، مؤدية إلى اقتصاد ركودي منخفض الإنتاجية ومانع للتطور التكنولوجي.

سأل لينين ((Who whom  في إطار تعريفه للسلطة والسياسة على أنها تحديد من يسيطر على من ولمصلحة من، وفي هذا الإطار إن الطريق الوحيد للتخلص من أزمة الرأسمالية اللبنانية من أجل إقامة اقتصاد عصري تنافسي وديناميكي هو بإنهاء ثنائية سلطة التحاصص الطائفي ـــ الريعي، واستبدالهما بنظام ذي توجه اشتراكي يقدر على إدارة الرأسمالية بشكل فعال. إن هذه هي الطريقة الوحيدة لكسر سيطرة الاحتكار والريع وإطلاق الحرية للأسواق (ما عدا الأسواق المالية لارتباطها بتمركز الثروة وإنتاج الفقاعات) من أجل الابتكار والتقدم التكنولوجي، ومن أجل مبادرة فردية منتجة لا يمكن أن تكون إلا ضمن وعاء اقتصادي جماعي. إن سلطة بديلة كهذه تستطيع أن تحرر الفوائد والريوع وأسعار العقارات وسعر الصرف من التحكم المستمر منذ أكثر من عشرين عاماً، الذي خدم النظام التحاصصي ــــ الريعي من أجل إطلاق عجلة الاقتصاد إلى الأمام. كذلك إن هذا النظام ذا التوجه الاشتراكي يمكن أن يتحكم بالاستثمار في الاقتصاد لإعادة بناء البنى التحتية المهترئة التي نتجت من التوجه إلى الاستهلاك ونقص الضرائب على الدخل والثروة في ظل النظام الحالي.

إن اليسار والحزب الشيوعي اللبناني تحديداً مدعوان لقيادة هذا التغيير ممثلين أوسع طبقات الشعب اللبناني التقدمية من طبقة عاملة ومتوسطة ومثقفين وعمال مهرة ومبادرين خلاقين، أي كل هؤلاء الذين تركتهم الرأسمالية اللبنانية على قارعة الاقتصاد والسياسة لمصلحة أكثر الفئات تخلفاً ورجعية ليس فقط في السياسة، بل على عكس ما يدعون في الاقتصاد أيضاً.

غسان ديبة

وصف ريتشارد بوزنر، وهو من أهم القانونيين والاقتصاديين المحافظين في الولايات المتحدة الأميركية، أزمة 2008 بأنها فشل لرأسمالية بُنيت على الأفكار الخاطئة للاقتصاديين النيوليبراليين ولطبيعة الرأسمالية المالية الأميركية، وليس فشل الرأسمالية بشكل مطلق. وفي نقاش مع أحد الزملاء الاقتصاديين من الذين يؤمنون بتفوق الاقتصاد الحر على ما عداه من النظم الاقتصادية حول أزمة الرأسمالية في لبنان، طرح فكرة أن لبنان ليس لديه اقتصاد حر، بل «اقتصاد الغاب»، لما يحتوي الاقتصاد من سيطرة احتكارية لقلة في مجالات عديدة تتيح دعم استعمال قوتهم السياسية والاقتصادية لتحقيق المكاسب المادية على حساب الآخرين. الحل إذاً يكون بتفكيك البنى والنظم التي تعوق السوق الحرة من أجل تحقيق اقتصاد حر ينتج رفاهاً اجتماعياً كما جاء في الكتب الاقتصادية.

الرائج اليوم أيضاً، خصوصاً في تحليلات الاقتصاديين الليبراليين وبعض المؤسسات الدولية لأسباب فشل التنمية في الدول النامية، وصف الرأسمالية في هذه الدول بأنها «رأسمالية الأصحاب» أو رأسمالية «الدولة الغنائمية». هذه الأوصاف استعملت كثيراً خلال الربيع العربي وبعده، بدافع تلبيس الثورات العربية، خصوصاً في مصر وتونس، الرداء المحكم للنيوليبرالية، لكونها ثورات على أنظمة، وإن كانت رأسمالية، وإنما يضربها الفساد والتسلط من قبل أحزاب وعائلات كظواهر هجينة ولصيقة على الرأسمالية الصافية للأسواق الحرة.
هذا التحليل ـ أقله في الظاهر ـ ليس بجديد، ويعيد إلى الأذهان مفهوم ماركس لـ»الاستبداد الشرقي» الذي وصف فيه المجتمعات قبل الرأسمالية في الشرق، كيف أنها بسبب أنظمتها في الملكية وسياسياً لا يمكن أن تتطور إلى الرأسمالية كما حدث في أوروبا الغربية. على الرغم من الفارق في عمق التحليل بين ماركس وما يطرح اليوم، السؤال يطرح نفسه: هل نحن في الشرق وغيره محكومون اليوم برأسمالية شرقية، وبالتالي ما علينا إلا التخلص من بعض الفاسدين والعائلات والأحزاب المتسلطة لنطلق العنان للرأسمالية الحقيقية؟
أولاً، الرأسمالية نفسها لم تتوافق قطّ مع النموذج الليبرالي الذي بدأ يطرح بأنها نظام اقتصادي تبادلي بين أفراد لا وجود فاعل فيه للربح وتراكم الرأسمال والطبقات وتوزع الدخل بينها منذ تخلص الفكر الرأسمالي من آخر الاقتصاديين العلميين، أي دافيد ريكاردو، الذي حدد مهمة الاقتصاد السياسي بالبحث عن كيفية توزّع الدخل بين طبقات المجتمع، مستعملاً ذلك للبحث عن الديناميكية الطويلة الأمد لهذا التوزع وتأثيره في حيوية الرأسمالية. من دون الدخول في تاريخ الرأسمالية واشكالها التي اتخذتها منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن، إلا أن وصفين لاقتصاديين للرأسمالية اليوم، يبينان لنا مدى عدم التوافق بين الواقع والنظرية.
يصف جوزف ستيغليتز، الاقتصاد الأميركي، وهو أكثر الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة ليبرالية بأنه اقتصاد الـ1%، مفنداً كيفية الترابط بين السيطرة على الأسواق والسياسات الاقتصادية، وتمركز الثروة والدخل بنحو يجعل الاقتصاد الأميركي في خدمة حفنة قليلة من النخبة الثرية، عاكسة بذلك الفترة الذهبية للرأسمالية الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية. كذلك، إن توماس بيكيتي في كتابه الأخير «الرأسمال في القرن الحادي والعشرين»، الذي أفردت الجمعية الاقتصادية الأميركية حلقة خاصة لنقاشه في اجتماعها الأخير في بوسطن في كانون الثاني الماضي كانت من الأكثر حضوراً، أسهب كيف أن الرأسمالية أصبحت رأسمالية ريعية، محكومة بزيادة الفوارق الاقتصادية وتمركز الثروة وتعطيل الديناميكية الإنتاجية للرأسمالية.
ثانياً، حتى لو سلمنا جدلاً بأن هناك رأسمالية مثالية يجب تحول الرأسماليات المختلفة من رأسمالية الغاب إلى الرأسمالية الريعية إليها، فإن السؤال المهم هو ماهية القوى السياسية والطبقية التي ستنقلنا من هذه الرأسماليات إلى الرأسمالية الحقيقة؟ بالعودة إلى لبنان، للإجابة عن هذا السؤال، فإن الأفق السياسي مغلق بواسطة سيطرة الأحزاب الطائفية التي لا برامج اقتصادية لديها ما عدا تأبيد النظام الحالي التحاصصي. أما الطبقات البورجوازية، فقد تجذرت مصالحها في الاحتكار والريع والاستدانة. بل إن ترابطاً تاريخياً حصل بين صعود الريعية والنظام التحاصصي الطائفي منذ نهاية الحرب الأهلية حتى الآن منتجة قنوات توزيع للدخل والثروة تغذّي هذا الترابط أنهكت تطور قوى الإنتاج، مؤدية إلى اقتصاد ركودي منخفض الإنتاجية ومانع للتطور التكنولوجي.
سأل لينين «?Who whom» في إطار تعريفه للسلطة والسياسة على أنها تحديد من يسيطر على من ولمصلحة من، وفي هذا الإطار إن الطريق الوحيد للتخلص من أزمة الرأسمالية اللبنانية من أجل إقامة اقتصاد عصري تنافسي وديناميكي هو بإنهاء ثنائية سلطة التحاصص الطائفي ـــ الريعي واستبدالهما بنظام ذي توجه اشتراكي يقدر على إدارة الرأسمالية بشكل فعال. إن هذه هي الطريقة الوحيدة لكسر سيطرة الاحتكار والريع وإطلاق الحرية للأسواق (ما عدا الأسواق المالية لارتباطها بتمركز الثروة وإنتاج الفقاعات) من أجل الابتكار والتقدم التكنولوجي، ومن أجل مبادرة فردية منتجة التي لا يمكن أن تكون إلا ضمن وعاء اقتصادي جماعي. إن سلطة بديلة كهذه تستطيع أن تحرر الفوائد والريوع وأسعار العقارات وسعر الصرف من التحكم المستمر منذ أكثر من عشرين عاماً، الذي خدم النظام التحاصصي ــــ الريعي من أجل إطلاق عجلة الاقتصاد إلى الأمام. كذلك إن هذا النظام ذا التوجه الاشتراكي يمكن أن يتحكم بالاستثمار في الاقتصاد لإعادة بناء البنى التحتية المهترئة التي نتجت من التوجه إلى الاستهلاك ونقص الضرائب على الدخل والثروة في ظل النظام الحالي.
إن اليسار والحزب الشيوعي اللبناني تحديداً مدعوان لقيادة هذا التغيير ممثلين أوسع طبقات الشعب اللبناني التقدمية من طبقة عاملة ومتوسطة ومثقفين وعمال مهرة ومبادرين خلاقين، أي كل هؤلاء الذين تركتهم الرأسمالية اللبنانية على قارعة الاقتصاد والسياسة لمصلحة أكثر الفئات تخلفاً ورجعية ليس فقط في السياسة، بل على عكس ما يدعون في الاقتصاد أيضاً.عن (الأخبار)

العدد 1107 - 22/5/2024