الصناعة الدوائية تنتظر الدعم أم تواجه أزمة جديدة..؟!

ساهم انتشار العنف الذي تشهده سورية منذ أربعة أعوام ونيف في تدهور الصناعة الدوائية السورية، مؤثراً بذلك سلباً على احتياجات المواطن من الأدوية واللقاحات، فخرج عدد من معامل الأدوية من الإنتاج نهائياً بسبب تركز معظمها في المناطق الساخنة في حلب وريف دمشق وحمص، كما تأثرت معامل أخرى أيضاً بالسرقة والنهب، وحسب تقديرات البعض فإن أكثر من 70% من مصانع الأدوية أجبرت على الإغلاق بسبب الأحداث، والمعامل المتبقية تعمل بأقل من ربع طاقتها الإنتاجية، إضافة إلى عزوف الكثير من العاملين في المهن الدوائية عن العمل في ظل انتشار العنف أو هجرتهم إلى الخارج.

ولم يكن العنف هو السبب الوحيد في تراجع القطاع الدوائي، إذ فاقمت العقوبات الاقتصادية الجائرة التي فرضها المعسكر الغربي ومشايخ الخليج وتركيا، والتي أثّرت على توافر الكثير من مستلزمات الإنتاج الدوائي، لاسيما وأن جزءاً كبيراً من هذه الصناعة يعتمد على مواد أولية مستوردة من الخارج، أضف إلى ذلك ارتفاع أسعار الصرف وصعوبة التحويلات المصرفية، وتضرر القطاعات الموازية للصناعات الدوائية من الكهرباء والمحروقات، وصعوبات النقل على الطرقات، والمعوقات الأمنية التي ترافقت بسرقة ونهب عدد من سيارات نقل الدواء، أو إيقاف بعض السيارات على الحواجز لأيام في شروط تخزين غير صحية ولأسباب واهية، بغية إجبارهم على دفع (أتاوات) للعبور، إضافة إلى توقف عدد كبير من مستودعات توزيع الأدوية والصيدليات عن عملها جراء التدمير والسرقة، ففي ريف دمشق وحدة، دمرت أكثر من 440 صيدلية.

إن صعوبات تأمين المواد الأولية شكلت خللاً في سوق الإنتاج الدوائي، وضاعفت من تكاليف الإنتاج الذي لمسته الشركات قبل المواطن، وجعلت عملية تأمين الأدوية أمراً صعباً، لاسيما أن حوالي 80% من عناصر إنتاج الدواء السوري هي بالقطع الأجنبي وفقاً لتصريح لجنة الصناعات الدوائية، فأضحى لسان حال أصحاب المعامل الدوائية اليوم (ارفعوا الأسعار أو نوقف الإنتاج)، مطالبين بدعم القطاع الدوائي ليتمكنوا من متابعة الإنتاج وتغطية حاجة السوق من الدواء المحلي.

في المقابل، أدى تردي الواقع الدوائي وندرة الأدوية إلى انتعاش السوق السوداء ودخول أدوية أجنبية مهربة بأسعار مرتفعة، جعلت المواطن أمام عائق كبير لحصوله على حقه في العلاج، في ظلّ انخفاض القيمة الشرائية لدخله، مع الإشارة إلى أنَّ حجم الدواء المهرب إلى سورية يقدّر بأكثر من 100 مليون دولار، قد يكون جزء كبير منه مزوراً.

بالأرقام

شهدت السنوات الماضية تطوراً كبيراً للصناعات الدوائية في سورية، فغدت تنتج قرابة 93% من احتياج السوق المحلي بكفاءة عالية وأسعار منخفضة، عدا الكميات التي تُصدَّر لنحو 60 دولة، خصوصاً أنَّ الدواء السوري كان يعتبر من أرخص الأدوية المصنعة عربياً، فأضحت سورية تحتل المرتبة الثالثة عربياً في تصدير الدواء بعد الأردن ومصر، فالأدوية السورية تغطي أغلب الفئات العلاجية ما عدا بعض الأنواع كأدوية السرطان وبعض أدوية الغدد بسبب تكلفتها العالية وحاجتها لتقنية متقدمة جداً، وأغلب هذه الأدوية توزعها الحكومة مجاناً على المرضى من قبل الوزارة. ووفقاً لتقرير لجمعية رجال وسيدات الأعمال السورية فقد تضاعف عدد الأصناف الدوائية المنتجة خلال سبع سنوات ليتجاوز 8000 صنف بنهاية 2010 تنتجها 72 شركة للصناعات الدوائية تعمل في السوق السورية، اثنتين منها قطاع عام، وباتت المعامل الدوائية تصنيع كل شيء تقريباً حتى الصناعات التي تحتاج لتقنيات عالية وكان آخرها الأنسولين. فوفّرت الصناعة الدوائية على الاقتصاد الوطني مبالغ طائلة من القطع الأجنبي تقدر بأكثر من ملياري دولار ناجمة عن التصدير وتوفير استيراد الدواء، فباتت من الصناعات التحويلية الهامة التي تسهم بشكل كبير في الدخل القومي، إضافة لتوفيرها فرص عمل كثيرة قُدرت بآلاف العاملين قبل الأحداث الأخيرة وإغلاق العديد من المعامل، كما أنها أوجدت صناعات ملحقة كالتغليف والبلاسيتك والزجاج وغيره.

ولكن مقابل هذه الإنجازات كان هناك تهميش ممنهج للقطاع العام الدوائي الذي ساند الجماهير الشعبية طيلة عقود، إذ ظلت السياسات الحكومية تبتعد عن دعمه وحمايته.

مقترحات

إن تحسين واقع الصناعات الدوائية أسوة بغيرها من القطاعات المنتجة مرهون بالحل السياسي الذي يفضي إليه الحوار المزمع، والتأكيد على نقل معامل الإنتاج إلى المناطق الآمنة والعمل على دعمها لمعاودة الإنتاج، وتذليل كافة الصعوبات التي تواجهها، على أن لا يكون الدعم على حساب المواطنين والطبقات الفقيرة والكادحة التي تعاني من ثقل الأزمة، وترزح تحت الضغوط الاقتصادية، أي إعادة النظر بالسياسات التسعيرية من جديد وفق مؤشرات الفقر والبطالة مع التشديد على محاسبة تجار الأزمات الذين تلاعبوا بالدواء في الأسواق السورية. إيجاد السبل لتسهيل انسياب الدواء إلى الأسواق وتأمين طرق النقل من أماكن إنتاجها، وتأمين الحماية اللازمة للمنشآت الدوائية والصناعية عامة، مع السعي الحثيث لتأمين بدائل لكافة الأدوية المفقودة من الأسواق، وإعادة النظر في ضوابط بيع الأدوية وتوزيعها من المعامل وصولاً إلى نقاط البيع.

وضوح السياسات وعدم التضارب بينها، وعدم اتخاذ قرارات آنية ذات منعكسات سلبية، والعمل على ضبط المتلاعبين بأسعار الدواء ومواصفاته.

العدد 1107 - 22/5/2024